أخبار الأسواقأخبار النفطسلع

توازن دقيق في أسعار النفط: صراع العقوبات الروسية وفائض المعروض المرتقب

أسعار النفط، التي تُعد شريان الاقتصاد العالمي ومرآة للتوترات الجيوسياسية، شهدت استقراراً حذراً يوم الثلاثاء بعد تداول متقلب. يواجه السوق حالياً حالة فريدة من الصراع بين عاملين متضادين بقوة: التصعيد في العقوبات الغربية ضد التدفقات النفطية الروسية، الذي يهدد بتقليص الإمدادات الفورية، مقابل توقعات اقتصادية بحدوث فائض كبير ومستمر في المعروض العالمي خلال السنوات القادمة. هذا التجاذب هو ما يحدد المدى القريب لحركة أسعار النفط.

وفي ختام التعاملات، سجل خام برنت، وهو المعيار العالمي، صعوداً طفيفاً ليبلغ حوالي 64.21 دولاراً للبرميل، بينما ارتفع خام غرب تكساس (WTI) ليصل إلى 59.97 دولاراً. يأتي هذا الاستقرار بعد أن تراجعت المؤشرات بنحو 1% في وقت سابق من الجلسة، ما يؤكد حالة الترقب والقلق التي تسيطر على أروقة التداول، حيث يترقب التجار أية مستجدات بخصوص الإمدادات العالمية.

العقوبات الأمريكية على روسياسلاح الضغط على أسعار النفط

تمثل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على قطاع الطاقة الروسي أحد المحركات الرئيسية لتقلب أسعار النفط في الوقت الراهن. وقد أكدت وزارة الخزانة الأمريكية أن العقوبات المفروضة في أكتوبر على شركتي “روس نفط” (Rosneft) و”لوك أويل” (Lukoil)، وهما من عمالقة قطاع الطاقة الروسي، بدأت بالفعل في الضغط على إيرادات موسكو من النفط. لا تهدف هذه العقوبات إلى خفض حجم الإنتاج الروسي فحسب، بل تسعى أيضاً إلى تقليل السعر الذي تبيع به روسيا نفطها، مما يضر بالميزانية الفيدرالية الروسية.

هذه الخطوات تهدف إلى خنق الإمدادات الروسية تدريجياً، مما يقلل من حجم صادراتها بمرور الوقت عبر تعقيد الوصول إلى خدمات التأمين والشحن العالمية. وفي سياق متصل، أشار مسؤول رفيع في البيت الأبيض إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على استعداد للتوقيع على تشريع يفرض مزيداً من العقوبات على روسيا، شريطة أن يحتفظ بالسلطة النهائية لتنفيذها. وتُضيف هذه التصريحات السياسية طبقة من عدم اليقين في السوق، إذ أن قرار التنفيذ النهائي يبقى رهناً بالسلطة التنفيذية.

كما تضمنت تصريحات ترامب إمكانية سَنّ الجمهوريين مشروع قانون يفرض عقوبات على أي دولة تتعامل تجارياً مع روسيا، مع احتمال توسيع نطاق العقوبات ليشمل إيران أيضاً. هذه التهديدات الجيوسياسية المستمرة تمثل “علاوة خطر” (Risk Premium) وتستمر في تقديم دعم سعري قوي لخام برنت ونفط غرب تكساس، خوفاً من أي نقص مفاجئ في المعروض.

ميناء نوفوروسيسك وعودة شريان حيوي بعد الإغلاق القصير

شهدت أسواق النفط العالمية اضطراباً مؤقتاً نهاية الأسبوع الماضي بعد تعليق تحميل النفط من ميناء نوفوروسيسك الروسي، وكذلك من محطة خط أنابيب كاسبيان القريبة، على خلفية هجوم أوكراني بصواريخ وطائرات مسيرة. وتكمن الأهمية الاستراتيجية لهذا المسار في أنه يمثل شرياناً حيوياً لتصدير النفط الروسي إلى البحر الأسود ومنه إلى الأسواق العالمية، حيث يتم ضخ حوالي 2.2 مليون برميل يومياً، وهو ما يعادل حوالي 2% من الإمداد العالمي. هذا الرقم الضخم يوضح لماذا يعتبر أي تعطل ولو ليوم واحد بمثابة صدمة سعرية.

وأدى هذا التوقف الذي استمر ليومين إلى ارتفاع فوري في أسعار النفط بأكثر من 2% يوم الجمعة، مما يعكس حساسية السوق الشديدة تجاه أي مخاطر تتعلق بالإمدادات الرئيسية. لكن استئناف عمليات التحميل يوم الأحد، وفقاً لمصادر صناعية، ساهم في تبديد جزء من هذا الارتفاع السريع، معيداً السوق إلى حالة التوازن الحذر. ويشير التعافي السريع لعمليات الموانئ إلى الجهود الروسية المستمرة لضمان استمرار تدفق صادراتها رغم التحديات الجيوسياسية.

موجة  فائض المعروض تضغط على الأسعار حتى 2026

في المقابل، يقف التوقع بوجود فائض في المعروض العالمي كعامل ضغط رئيسي نحو تراجع أسعار النفط على المدى الطويل، متغلباً على تأثيرات المخاطر الجيوسياسية المحدودة زمنياً. فقد أفادت مؤسسة جولدمان ساكس، إحدى أبرز المؤسسات المالية، بأنها تتوقع أن تنخفض الأسعار بشكل تدريجي ومستمر حتى عام 2026.

ويُعزى هذا التوقع إلى ما أسمته المؤسسة بـ “موجة إمدادات” ضخمة من المتوقع أن تُبقي السوق في حالة فائض. وتأتي هذه الموجة بشكل رئيسي من استمرار نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى زيادة الإنتاج من خارج تحالف “أوبك بلس” (OPEC+). هذا النمو المستمر في الإمدادات من المنتجين غير الملتزمين باتفاقيات التخفيض، يقلل من فعالية أي جهود قد تبذلها “أوبك بلس” لدعم الأسعار.

يعني هذا التحليل أن أي ارتفاعات سعرية ناتجة عن التوترات الجيوسياسية (مثل العقوبات الروسية أو اضطرابات الموانئ) قد تكون قصيرة الأجل ومحدودة التأثير على المسار السعري العام. إلا أن جولدمان ساكس قدمت استثناءً هاماً لهذا التوقع، مشيرة إلى أن سعر خام برنت قد يتجاوز مستوى 70 دولاراً للبرميل في عامي 2026 و 2027، في حال انخفض الإنتاج الروسي بوتيرة أشد بكثير مما هو متوقع حالياً نتيجة لتكثيف العقوبات. وفي هذا السيناريو، سيؤدي النقص الفعلي في السوق إلى استنزاف المخزونات ودفع الأسعار إلى مستويات أعلى بكثير.

ختاما فإن السوق لا يزال عالقاً بين القوة الصاعدة للعقوبات التي تهدد بتقلص الإمدادات على المدى القريب، وبين القوة الضاغطة لتوقعات الفائض المستقبلي المعتمدة على أساسيات الإنتاج. المستثمرون والمراقبون على حد سواء يتابعون عن كثب مدى فعالية العقوبات الأمريكية وقدرة السوق على استيعاب موجة المعروض الجديدة، وهي معركة ستحدد بشكل كبير اتجاه أسعار النفط للسنوات القادمة.

اقرأ أيضا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى