ارتفاع الدولار الأمريكي وسط تباين السياسات النقدية العالمية

شهد الدولار الأمريكي ارتفاعاً ملحوظاً مقابل اليورو والين الياباني، يوم الأربعاء، مدعوماً بترقب الأسواق لقرار محتمل من الكونغرس بإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة. هذا الارتفاع ليس مجرد رد فعل عابر، بل هو نتاج تقييم المستثمرين لحجم البيانات الاقتصادية المؤجلة التي ستغمر الأسواق، وكيف ستؤثر تلك البيانات على مسار السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي (Fed) بشأن أسعار الفائدة.
وتأتي هذه التحركات بينما يواجه الين الياباني ضغوطاً غير مسبوقة دفعته إلى أدنى مستوى في تسعة أشهر، مما يؤكد مكانة الدولار كملاذ آمن في خضم التباين الواضح في التوجهات النقدية العالمية. فالأسواق تُسعِّر قوة الاحتياطي الفيدرالي النسبية والتزامه بالسيطرة على التضخم مقارنة بالبنوك المركزية الأخرى.
تأثير إعادة فتح الحكومة وحزمة البيانات الاقتصادية الكاشفة
ارتفع مؤشر الدولار الأمريكي (DXY)، الذي يقيس قوة العملة مقابل سلة من العملات الرئيسية، بنسبة 0.19% ليصل إلى 99.63 نقطة. ورغم أن الجنيه الاسترليني تراجع، إلا أن الدولار الأسترالي شهد ارتفاعاً طفيفاً مع تزايد النقاش حول ما إذا كان سعر الفائدة الحالي في أستراليا كافياً لكبح التضخم. هذا التباين في أداء العملات يؤكد أن معركة مكافحة التضخم أصبحت هي القوة الدافعة الرئيسية في أسواق الصرف العالمية.
في الوقت الذي يستعد فيه السوق لاستقبال فيض من البيانات الاقتصادية الأمريكية، يبقى الدولار الأمريكي مرشحاً لمزيد من التقلبات. وسيكون التركيز منصباً على بيانات الوظائف الجديدة وما ستقدمه من مؤشرات حاسمة لمستقبل السياسة النقدية الأمريكية، التي باتت محط أنظار العالم بأسره.
من المتوقع أن يصوت مجلس النواب الأمريكي على حزمة تمويل مؤقتة لإنهاء الإغلاق الحكومي، وهو ما سيعيد دفع مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين إلى العمل ويعيد إحياء الخدمات المعطلة. الأهم من ذلك، أن هذا القرار سيطلق “انفجاراً” من الإفصاحات الاقتصادية التي تأجلت بسبب الإغلاق، وعلى رأسها تقرير الوظائف الشهري الذي يتابعه الجميع. وتشمل هذه البيانات المؤجلة أيضاً أرقام نمو الناتج المحلي الإجمالي (GDP growth) وبيانات مبيعات التجزئة (retail sales) التي تعكس قوة الإنفاق الاستهلاكي في الربع الأخير.
وفي هذا الصدد، علّق إريك ثيوريت، خبير استراتيجيات العملات الأجنبية لدى سكوتيا بنك، قائلاً: “سنتلقى جولة جديدة من البيانات تُلقى علينا بعد فترة هدوء، لذلك أعتقد أن هناك الكثير من الاحتمالات للحركة في السوق”. ستكون هذه البيانات هي البوصلة التي ستحدد ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في توجهه نحو التيسير النقدي أم سيتراجع. فإذا أظهرت البيانات قوة اقتصادية تفوق التوقعات، فإنها قد تدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى التفكير في إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول (higher for longer)، مما يعزز الدولار بشكل إضافي ويؤخر أي حديث عن خفض محتمل.
الانقسام داخل الاحتياطي الفيدرالي ومستقبل أسعار الفائدة
لا يزال مستقبل أسعار الفائدة يمثل نقطة خلاف رئيسية، مما يزيد من جاذبية الدولار الأمريكي كملاذ. ففي اجتماع ديسمبر، قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إن خفض سعر الفائدة ليس أمراً مؤكداً، ويظل صانعو السياسة منقسمين حول ما إذا كان ينبغي مواصلة التيسير النقدي، خاصة مع بقاء التضخم عند مستويات مرتفعة نسبياً.
ويتركز القلق الرئيسي داخل “الفيدرالي” على التضخم الأساسي (core inflation)، الذي لا يزال مدعوماً بعوامل هيكلية مثل ارتفاع أجور العمال والمشكلات المتبقية في سلاسل الإمداد. هذا التضخم المستمر هو ما يجعل بعض صانعي السياسة يخشون التخفيض المبكر الذي قد يعيد إشعال ضغوط الأسعار.
حالياً، تسعر عقود الفائدة المستقبلية (Fed funds futures) احتمالاً بنسبة 64% لتخفيض سعر الفائدة في اجتماع ديسمبر، مما يضفي حالة من عدم اليقين على تحركات الدولار. وتشير هذه النسبة إلى أن السوق ما زال يرى الخطر الأكبر في التباطؤ الاقتصادي بدلاً من خطر التضخم المتفشي، مما يخلق التناقض الحالي في تسعير الدولار مقابل البيانات المنتظرة.
الين الياباني: ضغوط سياسية وتدخل لفظي ضعيف
في المقابل، وصل الين الياباني إلى أدنى مستوى له مقابل العملة الخضراء منذ فبراير، مدفوعاً بمخاوف السوق من سعي الحكومة اليابانية الجديدة، برئاسة سناء تاكايتشي، للتأثير على بنك اليابان (BOJ) لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة. هذا التدخل السياسي اللين (Soft influence) يثير القلق بشأن استقلالية البنك المركزي، وينبع من اعتماد اليابان الكبير على الصادرات والعبء الضخم للدين الحكومي الياباني، الذي يتطلب تكاليف اقتراض منخفضة للحفاظ على استدامته المالية.
في ظل هذا التراجع، أصدرت وزيرة المالية اليابانية، ساتسوكي كاتاياما، تحذيراً لفظياً جديداً بشأن “التحركات السريعة وأحادية الجانب في سوق الصرف الأجنبي”. ومع ذلك، يرى الخبراء أن هذا “التدخل اللفظي” لم يعد له تأثير كبير في ظل حجم التحركات الحالية. وأشار محمد الصراف، خبير استراتيجيات العملات الأجنبية في بنك دانسكي، إلى أنه لكي يعزز اليابانيون الين حقاً، فإنهم بحاجة إلى “تدخل حقيقي”، وهو ما قد يصبح ممكناً خلال الأشهر المقبلة. إن التدخل الحقيقي يعني دخول بنك اليابان أو وزارة المالية إلى السوق فعلياً لبيع الدولار الأمريكي وشراء الين الياباني بكميات ضخمة، وهي خطوة تحمل مخاطر تصعيد “حروب العملات” لكنها قد تكون الأداة الوحيدة لوقف التراجع المستمر للين.
اقرأ أيضا…



