ارتفاع الدولار الأمريكي بدعم من شكوك في خفض الفائدة وملاذ آمن في مواجهة التراجع الاقتصادي

صعد الدولار الأمريكي ليبلغ أعلى مستوياته في أربعة أشهر مقابل اليورو يوم الثلاثاء، وذلك في ظل انقسام أعضاء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي أثار الشكوك حول إمكانية إجراء خفض آخر لأسعار الفائدة خلال العام الجاري. بالتوازي مع ذلك، دفع تحول عام نحو “النفور من المخاطر” المستثمرين للبحث عن الدولار الأمريكي كعملة ملاذ آمن.
في المقابل، شهد الجنيه الإسترليني تراجعاً حاداً بعد أن أشارت وزيرة المالية البريطانية إلى ضرورة اتخاذ “خيارات صعبة” في الميزانية القادمة، مما سلط الضوء على التباين في الأداء الاقتصادي والسياسات النقدية حول العالم.
هيمنة الدولار الأمريكي في ظل انقسام الفيدرالي
تُعد الزيادة الأخيرة في قوة الدولار الأمريكي امتداداً للتجمّع الذي أعقب اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي (Fed) الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من أن البنك المركزي أقدم على خفض أسعار الفائدة كما كان متوقعاً، أشار رئيسه جيروم باول إلى أن خفضاً آخر محتملاً في ديسمبر ليس أمراً مضموناً، مما فتح الباب أمام التكهنات.
يكمن الانقسام في الفيدرالي بين “الصقور” الذين يصرون على ضرورة الحذر المستمر من التضخم، وبين “الحمائم” الذين يركزون على مخاطر تباطؤ النمو الاقتصادي والحاجة إلى دعم الانتعاش. وقد أسهمت تصريحات متضاربة من مسؤولي الفيدرالي حول الوضع الاقتصادي والمخاطر المحيطة في خلق حالة من عدم اليقين. الأهم من ذلك، أدى الإغلاق الحكومي الأمريكي إلى تعليق نشر البيانات الاقتصادية الحيوية، مثل تقارير التوظيف أو مؤشرات أسعار المستهلكين (CPI)، مما جعل الفيدرالي يعمل في حالة شبه عمياء. هذا النقص في البيانات الحرجة يضخم من حساسية السوق لأي تصريح أو تلميح، ويدفع المتداولين للتمسك بـ الدولار الأمريكي باعتباره الأصل الأكثر سيولة والأكثر قدرة على تحمل الصدمات.
ونتيجة لذلك، تراجعت تسعيرة التجار لاحتمالية خفض سعر الفائدة في ديسمبر إلى 65%، مقارنة بـ 94% قبل أسبوع واحد، وفقاً لأداة “CME FedWatch”، مما قدم دفعة قوية للدولار الأمريكي. وارتفع مؤشر الدولار (DXY)، الذي يقيس العملة مقابل سلة من ست عملات رئيسية أخرى، متجاوزاً مستوى 100 للمرة الأولى منذ أوائل أغسطس. يُعتبر هذا المستوى حاجزاً نفسياً وفنياً مهماً؛ فاختراقه يشير إلى تحول كبير في الزخم الفني، مما يعزز مكانة الدولار الأمريكي كـ “أفضل ملاذ آمن” في أذهان المشاركين في السوق، بصرف النظر عن أي توقعات طويلة الأجل لـ “نهاية هيمنة الدولار”.
تحول المستثمرين نحو الأصول الآمنة: ضعف اليورو كمؤشر
كانت المعنويات العامة في السوق أكثر قتامة بشكل ملحوظ؛ حيث تراجعت أسواق الأسهم العالمية وزاد الطلب على السندات الحكومية. هذه البيئة العسيرة غذت الحاجة إلى عملات الملاذ الآمن، مثل الين الياباني والفرنك السويسري، وخصوصاً الدولار الأمريكي. ويعود هذا التشاؤم إلى عوامل خطر متعددة، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية المستمرة التي تهدد استقرار سلاسل الإمداد العالمية، بالإضافة إلى المخاوف المتزايدة بشأن التباطؤ الاقتصادي في آسيا وأوروبا والذي قد يضر بأرباح الشركات العالمية.
وفي هذا السياق، انخفض اليورو للجلسة الخامسة على التوالي بنسبة 0.3% ليصل إلى 1.148 مقابل الدولار الأمريكي، وهو أضعف مستوى له منذ 1 أغسطس. يُعد مستوى 1.148 خط دعم حرج لليورو؛ واستمرار التداول دونه يشير إلى قلق أعمق بشأن آفاق منطقة اليورو الاقتصادية، التي لا تزال تكافح تداعيات أزمة الطاقة ومخاطر الركود في اقتصاداتها الكبرى مثل ألمانيا. هذا الضعف الهيكلي في العملات المنافسة يجعل من الدولار الأمريكي عملة مفضلة ومستقرة نسبياً. كما تراجع الدولار الأسترالي بنسبة 0.7%، بعد أن أبقى البنك الاحتياطي الأسترالي سعر الفائدة النقدية ثابتاً عند 3.60%، مع التحفظ على أي تيسير نقدي مستقبلي، مما يعكس حذراً عالمياً.
تراجع الجنيه الإسترليني على وقع “الخيارات الصعبة” ورهانات بنك إنجلترا
شهد الجنيه الإسترليني انخفاضاً بنسبة 0.7% ليصل إلى 1.3057 مقابل الدولار الأمريكي، وذلك بعد أن عرضت وزيرة المالية البريطانية خلفية اقتصادية صعبة تواجهها البلاد، مشيرة إلى ارتفاع مستويات الدين العام القياسية، وانخفاض الإنتاجية الهيكلي، واستمرار التضخم العنيد الذي يضغط على الأسر والشركات.
وتعني عبارة “الخيارات الصعبة” أن الحكومة البريطانية تواجه مفاضلة مؤلمة بين فرض زيادات ضريبية قد تعيق النمو الاقتصادي وبين إجراء تخفيضات كبيرة ومؤلمة في الإنفاق العام، وذلك بهدف معالجة الديون الضخمة المتراكمة بعد الأزمات الأخيرة. ويرى المحللون أن هذه الإشارات من وزيرة المالية هي في جوهرها إشارة مساعدة لبنك إنجلترا (BoE).
تُفسر تصريحات الوزيرة بأن خيارات الميزانية ستركز على خفض التضخم تمهيداً لخفض الفائدة، على أنها تقلل من الضغط على البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة مجدداً. هذا التناغم المتوقع بين السياسة المالية (الحكومة) والسياسة النقدية (بنك إنجلترا) يثير التكهنات حول إمكانية قيام البنك باتخاذ توجه أكثر “تيسيراً” (Dovish Tilt) في وقت أبكر مما كان متوقعاً. ونتيجة لهذه الرهانات، قد يبقى الجنيه تحت الضغط قبيل اجتماع السياسة النقدية المقرر في 4 نوفمبر.
الين الياباني: مراقبة للتدخل الحكومي وتأثير الانتقادات الدولية
في خضم ضعف العملات الأخرى، لقي الين الياباني دعماً محدوداً بفضل قرار بنك اليابان الأسبوع الماضي بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، وهو ما أبقى على فجوة واسعة في العائدات بينه وبين الدولار الأمريكي. ومع ذلك، دفع ضعف الين الأخير بوزيرة المالية ساتسوكي كاتاياما إلى تكرار نية الحكومة مواصلة مراقبة تحركات العملة “بإحساس عالٍ بالإلحاح”، وهي اللغة المعتادة التي تسبق التدخلات المحتملة.
يشار إلى أن الين يقترب من المستويات التي تدخلت عندها السلطات اليابانية لدعمه في عامي 2022 و2024. وقد يكون هذا التدخل محفوفاً بالمخاطر في ظل انتقادات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المتكررة للدول التي تسمح لعملاتها بالضعف. هذا الموقف يفرض على صانعي السياسة اليابانيين التروي والحذر الشديد، خاصة وأن أي تدخّل قد يُفسر على أنه محاولة غير عادلة للحصول على ميزة تجارية.
اقرأ أيضا…


