أسعار النفط تسجل أدنى مستوياتها منذ 4 أشهر

شهدت أسعار النفط العالمية موجة هبوط حادة استمرت لأربعة أيام متتالية، لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ أوائل شهر يونيو الماضي. يعكس هذا التراجع، الذي طال خام برنت وغرب تكساس الوسيط، قلقاً متزايداً في سوق الخام العالمي بشأن احتمال حدوث تخمة في المعروض، خاصة مع ظهور مؤشرات قوية على خطط لزيادة الإنتاج وتراجع في مستويات الطلب. هذا الهبوط يرسل إشارة واضحة إلى الأسواق المالية العالمية بأن محرك الطلب قد بدأ يفقد زخمه، ما يضع ضغوطاً تصحيحية كبيرة على تسعير أسعار النفط في الأجل القريب.
تفاصيل الانخفاض ودلالاته في السوق
في أحدث جلسات التداول، استمر خام برنت في التراجع، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 0.9% ليصل إلى 64.77 دولاراً للبرميل. بالتوازي، تراجع خام غرب تكساس (WTI) أيضاً بنسبة 0.9%، مستقراً عند 61.21 دولاراً للبرميل. يشير وصول كلا المعيارين إلى أدنى مستوى لهما في أربعة أشهر إلى تحول كبير في معنويات السوق. بعد فترة من التفاؤل الحذر، بدأ المستثمرون يعيدون تقييم التوازن بين العرض والطلب، ومالت الكفة نحو توقعات بزيادة الإمدادات. هذا السيناريو يزيد الضغط على أسعار النفط ويدفعها نحو المزيد من التراجع.
إن الهبوط إلى مستويات لم تُشاهد منذ ما يقرب من ربع عام يُعدّ حدثاً نفسياً وتجارياً هاماً. فالمستثمرون والمتعاملون في عقود الطاقة الآجلة غالباً ما يعتبرون المستويات السعرية السابقة نقاط دعم، واختراق هذه النقاط يدفع إلى موجات من البيع بدافع التخلص من المخاطر أو تنفيذ أوامر وقف الخسارة. هذا الانخفاض القوي يفتح الباب أمام مزيد من التقلبات في الأسابيع المقبلة، ويثير تساؤلات حول مدى متانة التعافي الاقتصادي العالمي الذي يعتمد بشكل كبير على استقرار أسعار النفط كمؤشر للتكلفة اللوجستية والإنتاجية.
ضغوط الإنتاج المتزايدة من “أوبك+” وتحدي الحصة السوقية
يُعدّ التحول المحتمل في استراتيجية تحالف “أوبك+” أحد أقوى العوامل الضاغطة على أسعار النفط. فقد أشارت مصادر مطلعة إلى أن التحالف قد يتفق على زيادة إنتاج النفط بما يصل إلى 500,000 برميل يومياً في شهر نوفمبر، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف الزيادة التي تم إقرارها لشهر أكتوبر.
وتأتي هذه التوقعات مدفوعة برغبة المملكة العربية السعودية في استعادة حصتها السوقية. فالخيار أمام المنتجين الرئيسيين يدور حول الموازنة الدقيقة بين تحقيق أقصى عائد مالي من أسعار النفط الحالية وبين المحافظة على حصتهم السوقية طويلة الأمد في مواجهة مصادر الطاقة البديلة والنفط الصخري. إذا تم تنفيذ هذه الزيادة الكبيرة والمفاجئة، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى “تخمة فائقة” في سوق الخام العالمي، وهي توقعات بدأت بعض المؤسسات المالية الكبرى، مثل “ماكواري”، تروج لها. تُشير التخمة الفائقة إلى تجاوز العرض للطلب بشكل كبير، مما يفرض ضغطاً هائلاً على مرافق التخزين العالمية ويؤدي إلى انهيار أكبر في الأسعار. هذا الفائض المتوقع يعزز المخاوف القائمة بشأن أسعار النفط ويصعب من مهمة الحفاظ على استقرارها فوق المستويات المطلوبة للميزانيات الحكومية للدول المنتجة.
الجغرافيا السياسية تلعب دورها المزدوج
على الجانب الجيوسياسي، تتزايد التوترات التي تؤثر على أسعار النفط في اتجاهين متعاكسين. فمن ناحية، أعلن وزراء مالية مجموعة السبع (G7) عن خطوات لزيادة الضغط على روسيا من خلال استهداف أولئك الذين يواصلون شراء النفط الروسي. تهدف هذه الخطوات إلى تضييق الخناق على مبيعات النفط الروسي، مما يرفع من تكلفة المخاطر على المشترين الثانويين ويصعّب على موسكو الوصول إلى الأسواق التقليدية، مما يزيد من عنصر عدم اليقين في سوق الخام العالمي.
بالإضافة إلى ذلك، أكدت تقارير أن الولايات المتحدة ستقدم لأوكرانيا معلومات استخباراتية لتمكينها من شن ضربات صاروخية بعيدة المدى على البنية التحتية للطاقة الروسية، مثل المصافي وخطوط الأنابيب. هذه الخطوات تثير قلقاً في السوق بشأن احتمالية تعطل إمدادات النفط الروسي، وهو عامل قد يدفع الأسعار للارتفاع، حيث إن أي هجوم ناجح على البنية التحتية قد يخرج كميات كبيرة من النفط المكرر أو الخام من التداول بشكل دائم. ومع ذلك، يرى المحللون، مثل جيوفاني ستاونوفو من UBS، أن هذا التأثير سيظل محدوداً طالما لم يحدث تعطل فعلي ومؤثر في الإمدادات، مما يبقي العامل الجيوسياسي كـ “خطر محتمل” وليس كـ “حقيقة سعرية” حالياً.
ارتفاع مخزونات النفط الأمريكية وتأثير الطلب الصيني كموازن
لا تقتصر ضغوط الانخفاض على قرارات “أوبك+”، بل تمتد إلى الأرقام الداخلية للسوق. فقد أفادت إدارة معلومات الطاقة (EIA) بارتفاع في مخزونات النفط الأمريكية من النفط الخام والبنزين والمشتقات الأسبوع الماضي، وهو ما يشير إلى تراجع في نشاط التكرير وضعف في الطلب المحلي. عادةً ما يُنظر إلى زيادة المخزونات على أنها إشارة سلبية تؤكد وفرة المعروض وتزيد من الضغط الهبوطي على أسعار النفط. ويشير ارتفاع مخزونات المشتقات مثل الديزل والوقود، على وجه الخصوص، إلى تباطؤ في النشاط الصناعي والشحن، مما يعكس ضعفاً أوسع في الاقتصاد يتجاوز مجرد انتهاء ذروة موسم الصيف.
في المقابل، يظل الطلب من الصين، أكبر مستورد للنفط الخام في العالم، عاملاً حاسماً يحد من عمق الهبوط في الأسعار. فطلب الصين المستمر على التخزين يعمل بمثابة شبكة أمان، حيث يدعم الأسعار ويمنعها من الانزلاق بشكل كارثي. وتستغل بكين هذه الفرص لملء احتياطياتها الاستراتيجية والتجارية بأسعار مخفضة، ما يخلق طلباً مضاداً للدورة الاقتصادية ويقدم دعماً أساسياً لـ سوق الخام العالمي حتى في ظل ضعف الطلب الغربي.
تخمة المعروض تهيمن على معنويات السوق
في المحصلة، يجد سوق الخام العالمي نفسه عالقاً بين إشارات متضاربة: ضغط بيع قوي ناتج عن التوقعات بزيادة إنتاج “أوبك+” وارتفاع المخزونات الأمريكية، وهما عاملان يؤكدان تخمة المعروض على المدى القريب، يقابله بعض الدعم المحدود من المخاطر الجيوسياسية المتمثلة في تعطل الإمدادات الروسية، والطلب القوي من الصين. لكن الاتجاه الحالي يؤكد أن مخاوف التخمة هي المهيمنة على معنويات السوق، مما دفع أسعار النفط إلى تسجيل أدنى مستوياتها منذ أربعة أشهر. هذا يضع الكرة في ملعب “أوبك+” التي سيتعين عليها قريباً اتخاذ قرار صعب بشأن التضحية بالحصة السوقية أو قبول مستويات أسعار أقل.
اقرأ أيضا…