تأرجح أسعار النفط بين التوترات الجيوسياسية وفائض المعروض

شهدت أسعار النفط ارتفاعاً ملحوظاً وذلك في أعقاب سلسلة من الأحداث السياسية التي ألقت بظلالها على أسواق الطاقة. وبينما عادةً ما تؤدي مثل هذه التوترات إلى قفزات كبيرة في الأسعار، فإن هذه المكاسب سرعان ما تراجعت، مما يطرح سؤالاً مهماً حول العوامل الحقيقية التي تتحكم في سوق النفط الخام اليوم.
إن سوق النفط يشبه مسرحاً عالمياً، حيث تتنافس فيه القوى السياسية والاقتصادية على تحديد المسار. وقد أظهرت التقلبات الأخيرة بوضوح هذه الرقصة المعقدة بين المحفزات قصيرة الأجل والحقائق الاقتصادية طويلة الأجل، مما يؤكد أن العواطف والخوف في السوق غالباً ما تتراجع أمام الأرقام الصلبة للعرض والطلب.
الأداء اليومي للنفط ومكاسب مدفوعة بالمخاطر
في أداء اليوم، استمرت أسعار النفط في مسارها الصعودي، حيث سجل خام برنت مكاسب بنحو 0.74%، ليصل سعره إلى حوالي 66.88 دولاراً للبرميل، بينما ارتفع خام غرب تكساس (WTI) بأكثر من 0.8% إلى 63.13 دولاراً للبرميل.
وتُعزى هذه المكاسب إلى استمرار حالة الترقب والقلق التي أحدثتها التوترات في الشرق الأوسط، وتحديداً بعد الهجمات الإسرائيلية في قطر التي استهدفت قيادات حماس. على الرغم من أن هذه الارتفاعات تُعكس “علاوة مخاطر جيوسياسية” في المقام الأول، إلا أنها وجدت دعماً إضافياً من توقعات بأن أي زيادة في إنتاج أوبك+ ستكون محدودة، مما يدعم الأسعار.
وفي المقابل، فإن البيانات التي تشير إلى ارتفاع مخزونات النفط الخام الأمريكية تضغط على الأسعار من الجهة الأخرى، مما يمنعها من الارتفاع بشكل كبير.
التوترات السياسية عامل الارتفاع المؤقت
كانت الهجمات الإسرائيلية على قيادات من حماس في قطر، وإسقاط بولندا طائرات مسيرة في أوكرانيا، بالإضافة إلى الضغط الأمريكي لفرض عقوبات جديدة على مشتري النفط الروسي، هي المحفزات الأساسية للارتفاع الأخير. هذه الأحداث خلقت حالة من القلق في السوق، فارتفعت العقود الآجلة لخام برنت وخام غرب تكساس بنحو 0.8% و 0.9% على التوالي.
ويعكس هذا الارتفاع خوف المستثمرين من احتمال حدوث اضطرابات في الإمدادات، وهو ما يدفعهم إلى شراء المزيد من عقود النفط كنوع من التحوط. وتُعرف هذه الزيادة المؤقتة في السعر بـ”علاوة المخاطر الجيوسياسية”. وغالباً ما تتشكل هذه العلاوة في أوقات الأزمات لأن المستثمرين يخشون أن تؤثر الصراعات على طرق الشحن الرئيسية أو البنية التحتية للإنتاج.
ومع ذلك، فإن هذه العلاوات نادراً ما تستمر لفترة طويلة ما لم تتحول المخاوف إلى اضطرابات فعلية في العرض، وهو ما لم يحدث في هذه الحالات. ففي الماضي، تسببت أحداث مثل حرب الخليج أو الهجمات على منشآت نفطية رئيسية في ارتفاعات حادة ومستمرة، لأنها أثرت بشكل مباشر على قدرة العالم على تزويد السوق بالنفط. أما اليوم، فإن النظام العالمي لإمدادات النفط أصبح أكثر مرونة وتنوعاً، مما يقلل من تأثير التوترات التي لا تؤدي إلى انقطاع فعلي في خطوط الأنابيب أو الإنتاج.
فائض المعروض يضغط على مكاسب أسعار النفط
على الرغم من هذه الارتفاعات، لم تدم المكاسب طويلاً. فقد أشار محللون إلى أن “الغيمة الداكنة لفائض المعروض” لا تزال تخيم على السوق، مما يحد من أي صعود كبير. ويعني فائض المعروض أن كمية النفط المنتجة في العالم تفوق كمية النفط التي يستهلكها الاقتصاد العالمي. ووفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA)، فإن أسعار النفط ستظل تحت ضغط كبير في الأشهر القادمة بسبب زيادة المخزونات، خاصة مع خطط مجموعة أوبك+ لزيادة الإنتاج.
هذه التوقعات السلبية حول العرض المستقبلي طغت على تأثيرات التوترات الجيوسياسية، مما جعل أي ارتفاع في الأسعار مؤقتاً. وتعتبر المخزونات المتزايدة في دول مثل الولايات المتحدة مؤشراً قوياً على أن الطلب لا يواكب الإنتاج، مما يرسل إشارة سلبية إلى السوق بأن الأسعار من المتوقع أن تنخفض. إن وجود كميات كبيرة من النفط المخزن يعني أن هناك إمدادات إضافية يمكن طرحها في السوق بسهولة، مما يمنع الأسعار من الارتفاع بشكل كبير حتى في أوقات التوترات. إن هذا الواقع الاقتصادي الأساسي هو ما يحدد الاتجاه العام للسوق، بغض النظر عن العناوين الإخبارية اليومية.
عوامل أخرى مؤثرة في أسعار النفط
إلى جانب العرض والطلب، تلعب العوامل الاقتصادية الأوسع دوراً في تشكيل سوق النفط. فبينما يأمل التجار في أن يخفض الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة في اجتماعه القادم، وهو ما قد يعزز النشاط الاقتصادي وبالتالي الطلب على النفط، فإن المقترح الأمريكي بفرض تعريفات جمركية على الصين والهند قد يضيف تعقيداً جديداً.
وتُعد الصين والهند من أكبر مشتري النفط الروسي، وأي إجراءات ضدهما قد تؤثر على التدفقات التجارية العالمية. إن خفض أسعار الفائدة يجعل الاقتراض أرخص، مما يحفز الشركات على الاستثمار والتوسع، ويشجع المستهلكين على الإنفاق. هذا النشاط الاقتصادي المتزايد يؤدي بشكل مباشر إلى زيادة الطلب على الطاقة والوقود، مما يرفع أسعار النفط.
في المقابل، فإن فرض تعريفات جمركية صارمة على الصين والهند قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصاداتهما، وبالتالي انخفاض الطلب على النفط، مما قد يوازن أو يفوق تأثير خفض الفائدة. هذا التناقض يضع صناع القرار في موقف صعب، حيث يتعين عليهم الموازنة بين أهداف السياسة الخارجية المتمثلة في الضغط على روسيا، والأهداف المحلية المتمثلة في السيطرة على التضخم والحفاظ على استقرار الاقتصاد الأمريكي.
في الختام، يظهر تحليل أسعار النفط أن السوق اليوم محكوم بقوتين متضادتين: التوترات الجيوسياسية التي تسبب ارتفاعات قصيرة الأجل، وفائض المعروض العالمي الذي يحد من هذه المكاسب ويجعل الاتجاه العام هبوطياً. وعلى الرغم من التقلبات اليومية، يظل الأساس الاقتصادي المتمثل في العرض والطلب هو العامل الأكثر أهمية في تحديد المسار المستقبلي لأسعار النفط الخام. إن فهم هذا التفاعل المعقد بين العوامل قصيرة وطويلة الأجل هو المفتاح لفهم ديناميكيات سوق الطاقة العالمية.
اقرأ أيضا…