أسعار الذهب تتراجع بعد بلوغها مستويات قياسية… ما الأسباب؟

تأرجحت أسعار الذهب مؤخراً، لتشهد تراجعاً طفيفاً بعد أن لامست مستويات تاريخية غير مسبوقة. هذا الانخفاض، الذي يثير تساؤلات حول استمرارية الاتجاه الصعودي للمعدن الثمين، جاء وسط موجة من عمليات “جني الأرباح” من قبل المستثمرين، الذين يسعون لتأمين مكاسبهم بعد الارتفاعات الكبيرة.
وفي الوقت نفسه، يترقب السوق بلهفة بيانات اقتصادية أمريكية حاسمة، والتي من شأنها أن ترسم ملامح مستقبل السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي).
جني الأرباح يسيطر على أسعار الذهب
يُعد تراجع أسعار الذهب بعد صعود كبير أمراً طبيعياً ومتوقعاً في أسواق المال، وهو ما يُعرف بـ”جني الأرباح” أو “التصحيح الفني”. فبعد أن وصل سعر الأونصة إلى $3,578.50 يوم الأربعاء، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق، رأى العديد من المستثمرين، سواء الأفراد أو المؤسسات، فرصة مثالية لتسييل جزء من استثماراتهم وتحقيق الأرباح، مما أدى إلى زيادة المعروض في السوق وبالتالي انخفاض السعر.
ومع ذلك، يرى الخبراء أن هذا التراجع لا يُعتبر انعكاساً للاتجاه، بل هو مجرد استراحة مؤقتة قبل معاودة الصعود، حيث لا تزال العوامل الأساسية التي تدعم أسعار الذهب قائمة. يعتبر هذا السلوك استجابة منطقية للمتداولين على المدى القصير، الذين يهدفون إلى الاستفادة من التقلبات السعرية السريعة.
فعندما يتخطى الأصل المالي مستوى مقاومة رئيسياً أو يسجل رقماً قياسياً جديداً، غالباً ما يلجأ هؤلاء المستثمرون إلى البيع لتحقيق أقصى استفادة من المكاسب التي تحققت في وقت قصير، وهذا ما يفسر التقلب الحالي. ومع ذلك، فإن المحللين الفنيين والمستثمرين على المدى الطويل لا يميلون للقلق من هذه التصحيحات، بل يرونها كفرصة صحية لإعادة تنظيم السوق وإزالة بعض التضخم الناتج عن الزخم المفرط، مما يمهد الطريق لمزيد من الارتفاعات المستقبلية بناءً على أسس أقوى.
السياسة النقدية الأمريكية
يُشكل مستقبل السياسة النقدية الأمريكية عاملاً محورياً في تحديد اتجاه أسعار الذهب. فالعلاقة بينهما علاقة عكسية واضحة؛ فكلما انخفضت أسعار الفائدة التي يحددها البنك المركزي، زادت جاذبية الذهب. والسبب بسيط: الذهب لا يدر عائداً، لذا فإن تكلفة الاحتفاظ به تزيد عندما تكون أسعار الفائدة على الأصول الأخرى (مثل السندات الحكومية أو الودائع المصرفية) مرتفعة.
وبمجرد أن يبدأ الفيدرالي في خفض الفائدة، تقل العوائد على هذه الأصول، مما يجعل الذهب أكثر تنافسية كأداة استثمارية، فيدفع المستثمرين للتوجه نحوه. وقد أشار العديد من مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي مؤخراً إلى أن هناك قلقاً متزايداً بشأن ضعف سوق العمل، وهو أحد المكونات الرئيسية التي يراقبها البنك المركزي ضمن مهمته المزدوجة المتمثلة في الحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق أقصى قدر من التوظيف.
هذا القلق يعزز التوقعات بخفض أسعار الفائدة في وقت قريب، بهدف تحفيز الاقتصاد. وفي هذا السياق، تترقب الأسواق بفارغ الصبر بيانات التوظيف غير الزراعية الأمريكية، والتي ستوفر صورة أوضح عن صحة الاقتصاد وستؤثر بشكل مباشر على قرارات الفيدرالي المستقبلية، سواء بتأكيد التوقعات بخفض الفائدة أو تأجيلها إذا كانت البيانات قوية بشكل مفاجئ.
الذهب… ملاذ آمن في أوقات عدم اليقين
يُعرف الذهب تقليدياً بأنه ملاذ آمن للمستثمرين في أوقات الاضطرابات الاقتصادية والجيوسياسية. وعندما تسود المخاوف في الأسواق، يلجأ المستثمرون إلى الأصول التي تحتفظ بقيمتها، وأبرزها الذهب. وفي هذا الصدد، أشار “براين لان”، المدير التنفيذي لشركة GoldSilver Central، إلى أن التوقعات بخفض أسعار الفائدة والمخاوف بشأن استقلالية البنك المركزي الأمريكي ستزيد من الطلب على الذهب كملاذ آمن.
وتتعدد أسباب اللجوء للذهب، منها التوترات التجارية مثل تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي ألمح فيها إلى إمكانية “فك” اتفاقيات تجارية مع أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، وهو ما يضيف طبقة جديدة من القلق إلى الأسواق العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يعد الذهب أداة فعالة للتحوط ضد التضخم، حيث يحافظ على قوته الشرائية في مواجهة ارتفاع الأسعار. وتزداد جاذبيته في الأوقات التي تشهد فيها العملات الرئيسية تدهوراً في قيمتها، مما يجعله خياراً مفضلاً للحفاظ على الثروة على المدى الطويل. كما أن الطلب المتزايد على الذهب من قبل البنوك المركزية حول العالم، التي تسعى لتنويع احتياطياتها بعيداً عن الدولار الأمريكي، يؤكد على دوره المستمر كأحد أهم الأصول الاحتياطية.
توقعات مستقبلية… هل يواصل الذهب صعوده؟
على الرغم من الانخفاض الأخير، لا تزال التوقعات إيجابية لمستقبل الذهب على المدى الطويل. فقد أشار تقرير صادر عن بنك غولدمان ساكس إلى أن أسعار الذهب قد تتجاوز $4,000 بحلول منتصف عام 2026، وهو ما يعكس ثقة المؤسسة المالية الكبرى في استمرارية الاتجاه الصعودي للمعدن الأصفر.
ويستند هذا التوقع إلى مجموعة من العوامل الأساسية، أبرزها استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى السياسات النقدية التوسعية. كما أن هناك عوامل أخرى تدعم هذا التوقع، مثل استمرار عمليات الشراء القوية من قبل البنوك المركزية العالمية، والتي تسعى لزيادة حصة الذهب في احتياطياتها الرسمية وتنويعها بعيداً عن الدولار الأمريكي. هذا الطلب المستمر من الكيانات السيادية يوفر دعماً قوياً للأسعار.
إضافة إلى ذلك، يزداد اهتمام المستثمرين الأفراد بالذهب كوسيلة للتحوط من التضخم، حيث يدركون أن الذهب يحافظ على قوته الشرائية على المدى الطويل، على عكس العملات الورقية التي قد تتآكل قيمتها بفعل ارتفاع الأسعار.
موجة التراجع لا تقتصر على الذهب
تجدر الإشارة إلى أن موجة جني الأرباح لم تقتصر على الذهب وحده، بل امتدت لتشمل كافة المعادن الثمينة الأخرى، مما يؤكد على أن السوق يشهد حركة تصحيحية شاملة وليس مجرد رد فعل على أداء الذهب بشكل منفرد. فقد شهدت أسعار الفضة، التي غالباً ما توصف بأنها “الأخ الأصغر للذهب” نظراً لتقلبها الحاد، تراجعاً مماثلاً بنسبة 0.8% بعد أن سجلت أعلى مستوى لها منذ سبتمبر 2011، وهو ما جعلها هدفاً جذاباً للمتداولين الراغبين في تحقيق أرباح سريعة.
كما أن المعادن الصناعية الثمينة مثل البلاتين والبلاديوم، واللذان يرتبطان بشكل وثيق بقطاع صناعة السيارات كعنصر أساسي في المحولات الحفازة، انخفضا بنسب مماثلة بلغت 1% و0.8% على التوالي. هذا السلوك المتزامن عبر قطاع المعادن الثمينة بأكمله يسلط الضوء على وجود عامل مشترك يؤثر على جميع هذه الأصول، وهو إما تراجع مؤقت في الشهية للمخاطرة، أو ببساطة عملية “تنظيف” للسوق بعد فورة صعود جماعية، مما يمهد الطريق أمامها لمواصلة مسيرتها في المستقبل.
ختاما تراجع أسعار الذهب مؤخراً هو مجرد تصحيح طبيعي بعد صعود كبير، مع استمرار العوامل الأساسية التي تدعم صعوده، مثل التوقعات بخفض أسعار الفائدة والمخاوف الجيوسياسية. يبقى الذهب ملاذاً آمناً يحظى باهتمام المستثمرين، وتتجه الأنظار الآن نحو البيانات الاقتصادية الأمريكية التي ستحدد مساره القادم.
اقرأ أيضا…