أسعار النفط: تحليل العوامل وراء تراجع العلاوات السعرية وتوقعات السوق العالمية

شهدت أسعار النفط العالمية مؤخرًا تراجعًا ملحوظًا في علاواتها السعرية، حيث انخفضت الفوارق بين العقود الآجلة القريبة والبعيدة. يأتي هذا التحول نتيجة لتضافر عدة عوامل اقتصادية وجيوسياسية، أبرزها زيادة الإمدادات من مناطق مختلفة حول العالم، بالتزامن مع انتهاء موسم الطلب المرتفع خلال الصيف. هذا التغير في ديناميكيات السوق يشير إلى أن المستثمرين والمتداولين أصبحوا أقل قلقًا بشأن شح المعروض الفوري، وهو ما يعكس نظرة أكثر تفاؤلاً حول قدرة المنتجين على تلبية الطلب العالمي.
تحول هيكل السوق: من التوتر إلى الاستقرار
يُشير “التأخر في التسليم” (Backwardation)، وهو مصطلح اقتصادي يعني أن الأسعار الفورية أعلى من الأسعار المستقبلية، إلى وجود شح في المعروض. وقد شهدت هذه الظاهرة تراجعًا حادًا في أسواق خام برنت وخام غرب تكساس (WTI) وخام دبي، حيث ضاقت الفوارق الزمنية لستة أشهر بأكثر من دولار واحد للبرميل.
هذا التضييق في الفجوة السعرية يعكس توقعات السوق بزيادة المعروض في الأشهر المقبلة، مما يقلل من الضغط على أسعار النفط الفورية. إن هذا التحول في بنية السوق يمثل مؤشرًا قويًا على أن مخاوف نقص الإمدادات، التي كانت تهيمن على السوق في وقت سابق، بدأت تتلاشى تدريجيًا لتحل محلها نظرة أكثر حذرًا واستقرارًا.
يعزو محللون هذا التغير إلى عاملين رئيسيين:
- زيادة إمدادات أوبك+: من المتوقع أن تزيد منظمة البلدان المصدرة للنفط وحلفاؤها (أوبك+) من إنتاجها في سبتمبر، مما يضيف كميات جديدة إلى السوق. هذه الزيادة تأتي كجزء من خطة المنظمة لتحقيق التوازن بين مستويات الإنتاج العالمية واحتياجات الاستهلاك، وهو ما يبعث برسالة طمأنة للمشترين.
- تزايد الإنتاج غير التابع لأوبك: بدأت دول مثل غويانا والبرازيل والنرويج بضخ كميات إضافية من النفط، مما يساهم في إغراق السوق. ففي غويانا، على سبيل المثال، بدأت منصات إنتاج جديدة بالعمل بطاقتها الكاملة، مما يضيف مئات الآلاف من البراميل يوميًا إلى السوق العالمية. هذا التزايد في المعروض من خارج تحالف أوبك+ يضع ضغوطًا إضافية على أسعار النفط ويجعل قرارات المنظمة أقل تأثيرًا على المدى البعيد.
تراجع الطلب الموسمي وانتهاء ذروة الصيف
مع اقتراب نهاية موسم الصيف في نصف الكرة الشمالي، يبدأ الطلب على الطاقة بالانحسار. وقد أدى هذا إلى تبريد الهوامش الربحية لوقود الديزل في أوروبا وتراجع استخدام النفط لتوليد الكهرباء في دول مثل المملكة العربية السعودية.
يُعرف هذا الانتقال من موسم الذروة الصيفية إلى فصل الخريف بـ “موسم الكتف” (Shoulder Season)، والذي عادة ما يشهد انخفاضًا في معدلات تشغيل المصافي وتراجعًا في استهلاك الطاقة بشكل عام مع انخفاض استخدام وقود السيارات والسفر جوًا بعد انتهاء العطلات الصيفية.
يرى المحللون أن هذا التراجع في الطلب، خاصة مع عدم اليقين بشأن استمرار واردات الصين الكبيرة لأغراض التخزين الاستراتيجي، قد يضع ضغطًا إضافيًا على أسعار النفط في الفترة القادمة.
المخاطر الجيوسياسية ومحادثات السلام بين روسيا وأمريكا
لا يمكن تجاهل تأثير العوامل الجيوسياسية على أسعار النفط. حيث لا تزال الشكوك قائمة حول إمدادات النفط الروسي في ظل التهديد بفرض عقوبات أمريكية إضافية على المشترين الرئيسيين مثل الصين والهند. ورغم أن الهند قد بدأت في شراء شحنات من مصادر بديلة، إلا أن مصير النفط الروسي لا يزال يشكل عامل خطر كبير.
يُضيف هذا العامل ما يُسمى بـ “علاوة المخاطر” (Risk Premium) إلى الأسعار. أي تطور إيجابي في محادثات السلام بين أمريكا وروسيا، قد يؤدي إلى انخفاض هذه العلاوة، وبالتالي تراجع أسعار النفط. وعلى الجانب الآخر، فإن عدم تحقيق تقدم في هذه المحادثات سيبقي العلاوة قائمة، وربما يزيدها في حالة فرض عقوبات ثانوية على الدول التي تشتري النفط الروسي.
السياسة النقدية وتأثيرها على أسواق النفط
على الجانب الاقتصادي، تلقت أسعار النفط دعمًا من التوقعات القوية بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيخفض أسعار الفائدة في سبتمبر، مما قد يحفز الطلب. فخفض أسعار الفائدة يجعل الاقتراض أرخص، مما يشجع على الاستثمار والنمو الاقتصادي، وبالتالي يزيد من الطلب على الطاقة. وتظهر أداة “CME FedWatch” أن احتمالية خفض الفائدة بنسبة 0.25% تصل إلى 99.9%، مما يعكس إجماعًا واسعًا في السوق.
ومع ذلك، فإن هذا الدعم قيد بسبب بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية التي أظهرت ارتفاعًا غير متوقع في مخزونات النفط الخام بمليوني برميل، إلى جانب توقعات وكالة الطاقة الدولية بزيادة أسرع في المعروض العالمي لعامي 2025 و2026. هذه البيانات تشير إلى أن السوق لديها فائض في المعروض، مما يحد من أي ارتفاع كبير في الأسعار.
توقعات حذرة للمستقبل
في ضوء هذه العوامل المتضاربة، يبدو أن سوق النفط تتجه نحو حالة من التوازن مع زيادة المعروض وانحسار الطلب الموسمي. ورغم أن توقعات خفض الفائدة الأمريكية تدعم الأسعار، إلا أن المخزونات المرتفعة وزيادة المعروض العالمي تضع حدًا لهذه الارتفاعات. وتظل حالة عدم اليقين الجيوسياسية بشأن إمدادات النفط الروسي والسياسة النقدية الأمريكية عوامل محورية قد تفاجئ السوق وتغير مسار أسعار النفط في أي لحظة.
اقرأ أيضا…