تراجع مرتقب للدولار الأمريكي في ظل مخاطر مالية وتجارية وتوقعات نمو معتدلة

يواجه الدولار الأمريكي فترة صعبة في الأشهر المقبلة، حيث من المتوقع أن يشهد تراجعًا في قيمته. هذا ما أشار إليه استطلاع أجرته رويترز لخبراء استراتيجيات العملات الأجنبية، مدفوعين بتزايد المخاوف بشأن العجز المالي الفيدرالي والدين العام للولايات المتحدة. هذه العوامل، بالإضافة إلى السياسات التجارية المتقلبة للرئيس دونالد ترامب، تخلق بيئة من عدم اليقين تضغط على العملة الخضراء.
تراجع الطلب على الأصول المقومة بالدولار: “بيع أمريكا” يتجلى
أظهرت نتائج استطلاع أُجري في الفترة من 30 مايو إلى 4 يونيو أن ما يقرب من 90% من خبراء استراتيجيات العملات الأجنبية (59 من أصل 66) يتوقعون تراجع الطلب على الأصول المقومة بالدولار الأمريكي. هذا يعكس ما وصفته جين فولي، رئيسة استراتيجية العملات الأجنبية في رابوبنك، بأنه “صفقة بيع أمريكا” التي تتجلى حاليا في السوق.
وقد خسرت قيمة الدولار الأمريكي ما يقرب من 10% مقابل سلة من العملات الرئيسية منذ منتصف يناير. كما أن علاقته الوثيقة المعتادة مع عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات قد انقطعت، مما يشير إلى تحول في الديناميكيات التي كانت تدعم الدولار تقليديا.
وترتبط هذه المخاوف ارتباطا وثيقا بالوضع المالي للولايات المتحدة. فبعد أن أقر مجلس النواب مؤخرا مشروع قانون لخفض الضرائب والإنفاق، والذي يقدر أنه سيضيف 3.3 تريليون دولار إلى دين عام ضخم يبلغ 36.2 تريليون دولار، تزايد قلق العديد من المستثمرين. وقد ارتفعت عوائد السندات طويلة الأجل بشكل كبير بسبب ارتفاع “علاوة الأجل” (Term Premium)، وهي تعويض يطالب به المستثمرون مقابل الاحتفاظ بديون طويلة الأجل، مما أدى إلى تدفقات كبيرة لرأس المال خارج الأصول الدولارية.
وتعليقا على ذلك، قالت جين فولي: “إذا استمر السوق في توقع تدهور آفاق النمو، فسيكون الاتجاه نحو المزيد من خسائر الدولار على المدى المتوسط”. وأعرب أكثر من 55% من المحللين في استطلاع أجرته رويترز في مايو عن قلقهم بشأن وضع الدولار الأمريكي كملاذ آمن، وهي نسبة ارتفعت بشكل ملحوظ من حوالي الثلث فقط في أبريل.
سياسات ترامب التجارية مصدر مستمر للتقلبات
تعد سياسات الرئيس ترامب التجارية المتقلبة عاملاً رئيسياً في عدم اليقين الذي يحيط بالدولار الأمريكي. ففي الأيام الأخيرة، شهدنا اتهامات من ترامب للصين بانتهاك اتفاق لخفض التعريفات والقيود التجارية، في حين أشار البيت الأبيض إلى احتمال إجراء محادثات بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ هذا الأسبوع. هذا التضارب والتذبذب في الخطاب والسياسة يخلق بيئة غير مستقرة للعملة.
وتخشى الأسواق من أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى تباطؤ النمو وإعادة إشعال التضخم. ورغم أن الاتفاقيات المؤقتة لخفض التعريفات مع الصين والاتحاد الأوروبي قد قللت من التشاؤم بشأن التوقعات الاقتصادية الأمريكية، إلا أن الصورة الكلية لا تزال ضبابية.
آفاق النمو والتضخم تضع قيود على الاحتياطي الفيدرالي
خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مؤخرا توقعاتها للنمو العالمي للمرة الثانية هذا العام، مشيرة إلى أن تداعيات الحرب التجارية لترامب تلقي بظلالها بشكل كبير على الاقتصاد الأمريكي.
وفيما يتعلق بالسياسة النقدية، فإن ارتفاع توقعات التضخم الأمريكية، التي تقترب من أعلى مستوياتها في أربعة عقود على الأقل، قد كبلت يد الاحتياطي الفيدرالي في الوقت الحالي. فبالرغم من أن الأسواق لا تزال تتوقع خفضين آخرين في أسعار الفائدة هذا العام، إلا أن التضخم المرتفع يجعل البنك المركزي حذرا.
وعلق دان توبون، رئيس استراتيجية العملات الأجنبية لمجموعة G10 في سيتي، قائلا: “خلال الصيف، نتوقع مخاطر علاوة الأجل (Term Premium) بسبب المخاوف المالية المرتفعة، وبدء تحول بيانات سوق العمل القوية. هذا مزيج سلبي للغاية لالدولار الأمريكي”. وأضاف: “هدفنا لليورو مقابل الدولار كان 1.15 دولار، لكننا نعتقد أنه يمكن أن يصل إلى 1.20 دولار. وقد يحدث ذلك عاجلا مما نتوقع إذا تحققت هذه المحفزات”.
توقعات اليورو وأوروبا نقطة مضيئة في الأفق
في المقابل، تبدو التوقعات لليورو أكثر إشراقا. فقد توقع أكثر من نصف المحللين في استطلاع رويترز الأخير ارتفاعا في توقعاتهم لليورو. ومن المتوقع أن يحافظ اليورو، الذي يتداول حاليا عند 1.14 دولار، على استقراره في غضون ثلاثة أشهر، ثم يرتفع بنحو 1% ليصل إلى 1.15 دولار في غضون ستة أشهر، وبنسبة 3% إضافية ليصل إلى 1.18 دولار في غضون عام. هذه التوقعات هي الأعلى منذ نوفمبر 2021.
ورغم أن البنك المركزي الأوروبي من المتوقع أن يخفض أسعار الفائدة هذا الأسبوع وربما مرة أخرى، بينما ظل الاحتياطي الفيدرالي ثابتا، وهو ما عادة ما يدفع فروقات أسعار الفائدة في الاتجاه المعاكس، إلا أن التوقعات السلبية لالدولار الأمريكي هي التي تدفع اليورو للارتفاع.
وعند سؤالهم عن المنطقة التي ستستفيد أكثر من تدفقات الدولار الأمريكي، أشار معظم المشاركين إلى أوروبا. ويظهر المستثمرون تفاؤلا عاما بأن خطط الإنفاق على البنية التحتية والدفاع، خاصة في ألمانيا، ستنعش اقتصاد الاتحاد الأوروبي الذي عانى من الركود لفترة طويلة.
ختاما يواجه الدولار الأمريكي فترة من الضعف المحتمل في الأشهر المقبلة، مدفوعا بمخاوف متزايدة بشأن الدين والعجز المالي الأمريكي، والسياسات التجارية المتقلبة التي قد تؤثر على النمو الاقتصادي، وتوقعات التضخم التي تكبل يد الاحتياطي الفيدرالي. في المقابل، يبدو اليورو في وضع أفضل، مدعوما بتوقعات النمو في أوروبا. على المستثمرين الأفراد والقراء العاديين مراقبة هذه العوامل عن كثب، حيث ستشكل هذه الديناميكيات المعقدة مسار الدولار الأمريكي في المستقبل المنظور.
اقرأ أيضا…