الدولار الأمريكي يتراجع مع تلاشي التفاؤل بشأن التعربفات

شهد الدولار الأمريكي تراجعاً واسع النطاق يوم الخميس، متخلياً عن المكاسب المحدودة التي حققها في الجلسة السابقة. عادت حالة التشاؤم والقلق بين المستثمرين لتسيطر على الأسواق، مدفوعة بشكل أساسي بعدم إحراز تقدم حقيقي وملموس نحو نزع فتيل الحرب التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين. هذا التراجع في المعنويات جاء بعد فترة وجيزة من التفاؤل الحذر شهدتها الجلسة السابقة، والتي كانت مدفوعة بإشارات إيجابية من واشنطن.
تراجع الدولار بعد انتعاش قصير الأمد
كان الدولار والأصول الأمريكية الأخرى قد شهدت انتعاشاً حاداً ومفاجئاً يوم الأربعاء. جاء هذا الارتفاع في أعقاب تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تضمنت تراجعاً واضحاً عن تهديداته المتكررة بإقالة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. كما بدا ترامب وكأنه يخفف من موقفه المتشدد تجاه الصين في الحرب التجارية، مما أثار آمالاً في إمكانية التوصل إلى حل قريب.
وفي سياق متصل، قال وزير الخزانة سكوت بيسنت بشكل منفصل إن الوضع الحالي الذي يشبه “الحظر الفعلي” على التجارة الأمريكية الصينية “غير مستدام” على المدى الطويل ويضر بالاقتصادين. ومع ذلك، حذر بيسنت في الوقت نفسه من أن الولايات المتحدة لن تكون البادئ في خفض رسومها الجمركية المرتفعة التي تتجاوز 100% على السلع الصينية، مما يشير إلى أن أي خطوة أمريكية ستتطلب تنازلات مقابلة من بكين.
بحلول يوم الخميس، تلاشت مكاسب الدولار التي تحققت في اليوم السابق بسرعة. جاء هذا التلاشي بعد أن أصدرت الصين بياناً رسمياً قالت فيه إنه “لم تكن هناك مفاوضات” حقيقية أو جوهرية بشأن الاقتصاد والتجارة مع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة. وحثت بكين واشنطن على رفع جميع الإجراءات الجمركية الأحادية الجانب المفروضة على السلع الصينية إذا كانت ترغب حقاً في حل القضية والتوصل إلى اتفاق. هذا الموقف الصيني الحازم أعاد المستثمرين إلى نقطة البداية تقريباً من حيث الوضوح بشأن مستقبل العلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، مما جدد المخاوف بشأن استمرار النزاع وتأثيره السلبي.
تصدر الين الياباني العملات المرتفعة مقابل الدولار في جلسة الخميس، نظراً لمكانته التقليدية كملاذ آمن في أوقات عدم اليقين. هذا الارتفاع في الين أدى إلى تراجع الدولار بنسبة 0.75% خلال اليوم ليصل إلى 142.39 ين، على الرغم من أنه لا يزال فوق مستوى 140 الذي اخترقه الأسبوع الماضي في ظل الضغوط التي تعرض لها الدولار.
شكوك متزايدة حول استراتيجية ترامب التجارية وتأثيرها على الدولار
قال ديفيد موريسون، الخبير الاستراتيجي في Trade Nation، معلقاً على التقلبات الأخيرة: “كانت هناك آمال كبيرة في حدوث انفراجة أو تهدئة في النزاع التجاري الذي تقوده الولايات المتحدة مع الجميع تقريباً، ليس فقط الصين”. يشير هذا إلى أن سياسات ترامب التجارية لم تؤثر على الصين وحدها، بل أثرت على العلاقات التجارية الأمريكية مع العديد من الدول الأخرى.
وأضاف موريسون، معلقاً على التفاعل بين ترامب والصين: “(ترامب) خفف من لهجته تجاه الصين، داعياً إياهم للحضور والتفاوض. لكن يبدو أن الأمر يتطلب طرفين للوصول إلى اتفاق (‘it takes two to tango’)، وحتى الآن، قررت القيادة الصينية أن تترك إدارة ترامب تتخبط في فوضاها الخاصة وتتحمل عواقب سياساتها”. يعكس هذا التعليق وجهة نظر مفادها أن الصين ليست في عجلة من أمرها لتقديم تنازلات وقد تفضل الانتظار لمعرفة ما إذا كانت الضغوط الداخلية في الولايات المتحدة ستجبر ترامب على تغيير مساره.
كان الدولار الأمريكي أكبر ضحية لسياسات ترامب التجارية المتقلبة وغير المتوقعة. هذه السياسات، التي تميزت بفرض تعريفات مفاجئة والتهديد بالمزيد، خلقت حالة من عدم اليقين أضرت بالثقة في الاقتصاد الأمريكي وقللت من جاذبية الدولار كأصل آمن ومستقر. تراجع الدولار بنسبة 4.8% في شهر أبريل وحده حتى الآن، وهو تراجع كبير. إذا استمر هذا التراجع بنفس الوتيرة حتى نهاية الشهر، فسيكون أكبر انخفاض شهري له منذ نوفمبر 2022، مما يسلط الضوء على مدى الضغط الذي يتعرض له الدولار حالياً.
هجمات ترامب على الفيدرالي تزيد من قلق المستثمرين بشأن الاستقلالية
تعرض المستثمرون لهزة إضافية خلال الأيام القليلة الماضية عندما شن ترامب سلسلة من الهجمات اللفظية غير المسبوقة على رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. انتقد ترامب باول بشدة بسبب تردده في خفض أسعار الفائدة، معتبراً أن البيانات الاقتصادية تبرر مثل هذه الخطوة. هذه الهجمات أثارت مخاوف جدية بشأن استقلالية البنك المركزي، وهو مبدأ يعتبر حاسماً للحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي. التدخل السياسي في قرارات السياسة النقدية يمكن أن يؤدي إلى قرارات غير مثلى ويضر بثقة المستثمرين في العملة.
كان تراجع المستثمرين عن الدولار نتيجة لهذه العوامل مجتمعة كبيراً لدرجة أنه يسير حالياً على مسار تسجيل أسوأ بداية عام له مقابل سلة من العملات الرئيسية منذ السبعينيات، وفقاً لبيانات LSEG التي تتعقب أداء العملات. هذا الأداء الضعيف في بداية العام يشير إلى تحول كبير في مواقف المستثمرين تجاه الدولار.
خبراء يتوقعون مزيداً من التراجع للدولار في المستقبل
يعتقد يان هاتزيوس، كبير الاقتصاديين في بنك غولدمان ساكس، أحد أبرز المؤسسات المالية في العالم، أن الدولار لا يزال أمامه طريق طويل للتراجع في المستقبل. يرى هاتزيوس أن العوامل التي تضغط على الدولار حالياً ليست مؤقتة بل هيكلية.
كتب هاتزيوس في مقال رأي تحليلي نشرته صحيفة فاينانشال تايمز يوم الخميس: “قرار المستثمرين غير الأمريكيين بتقليل انكشافهم على الأصول الأمريكية سيؤدي بالتأكيد تقريباً إلى انخفاض كبير في قيمة الدولار”. يوضح هاتزيوس أن أي تحول في تفضيلات المستثمرين العالميين بعيداً عن الأصول المقومة بالدولار سيكون له تأثير مباشر وقوي على سعر صرف الدولار.
وذهب إلى أبعد من ذلك قائلاً: “في الواقع، حتى مجرد تردد المستثمرين غير الأمريكيين في إضافة المزيد إلى محافظهم الاستثمارية الأمريكية من المرجح أن يضغط على الدولار”. هذا يعني أن الدولار لا يحتاج إلى عمليات بيع واسعة النطاق ليتراجع، بل يكفي أن يتباطأ تدفق الأموال الجديدة إلى الأصول الأمريكية ليواجه ضغطاً هبوطياً.
أداء العملات الأخرى مقابل الدولار يعكس تحولاً في تدفقات رؤوس الأموال
ارتفع الفرنك السويسري، الذي يعتبر ملاذاً آمناً رئيسياً آخر، مقابل الدولار في جلسة الخميس. يقترب الفرنك حالياً من أقوى مستوياته مقابل الدولار في أكثر من عقد، بفضل تدفقات الملاذ الآمن الكبيرة التي شهدها هذا الشهر مع تزايد المخاوف العالمية. هذا الارتفاع في الفرنك أدى إلى تراجع العملة الأمريكية بنسبة 0.6% خلال اليوم لتصل إلى 0.8251 فرنك.
ارتفع الجنيه الإسترليني أيضاً بنسبة 0.5% ليصل إلى 1.332 دولار. قالت وزيرة المالية البريطانية راشيل ريفز يوم الخميس إنها “واثقة” من أن بريطانيا يمكن أن تتوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. مثل هذا الاتفاق يمكن أن يدعم الجنيه الإسترليني مقابل الدولار.
يقول يان هاتزيوس، كبير الاقتصاديين في غولدمان ساكس، إن الدولار، الذي تعرض لضغوط وتضرر من عدم اليقين بشأن التعريفات الأمريكية ومخاوف الركود الاقتصادي المحتمل، أمامه طريق طويل للتراجع. يرى هاتزيوس أن الضغوط الحالية على الدولار ليست مجرد تقلبات عابرة بل تعكس عوامل أساسية أعمق.
اقرأ أيضا…