الفيدرالي الأمريكي على مفترق طرق: خفض الفائدة المتوقع ومخاطر “فقاعة الذكاء الاصطناعي”
يواجه الفيدرالي الأمريكي، واحدة من أصعب الفترات في تاريخه الحديث، حيث تتضارب التوقعات الاقتصادية وتتزايد المخاطر الجيوسياسية. إن مهمة البنك المزدوجة، المتمثلة في تحقيق أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار (السيطرة على التضخم)، أصبحت معقدة بشكل غير مسبوق في ظل تضخم عنيد وبيانات اقتصادية متقلبة. وفي هذا السياق،
وكشف استطلاع CNBC Fed الأخير لشهر أكتوبر عن إجماع واسع بين الاقتصاديين والاستراتيجيين ومديري الصناديق على أن الفيدرالي الأمريكي سيمضي قدماً في خفض أسعار الفائدة، لكن هذا المسار ليس خالياً من المطبات. وتبرز ثلاثة تهديدات رئيسية تلوح في الأفق: ضبابية البيانات الحكومية، شبح فقاعة الذكاء الاصطناعي، وشبهات التأثيرات السياسية على قرارات البنك. هذه الورقة تستعرض نتائج الاستطلاع وتفحص التحديات التي تقف أمام صانعي السياسة النقدية، وتقدم تحليلاً معمقاً لتداعيات قرارات الفيدرالي الأمريكي المتوقعة على الاقتصاد الكلي والأسواق المالية.
التوقعات بخفض أسعار الفائدة: الأغلبية تؤيد.. والأقلية تحذر
أكدت نتائج الاستطلاع، الذي شمل 38 خبيراً، التوقعات السائدة في السوق. إذ يعتقد 92% من المشاركين أن الفيدرالي الأمريكي سيخفض أسعار الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية في اجتماعه المرتقب هذا الأسبوع. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل توقع 84% خفضاً إضافياً في ديسمبر، و54% توقعوا خفضاً ثالثاً في يناير، ليصبح إجمالي التوقعات لخفض الفائدة 100 نقطة أساس على مدى العامين الحالي والقادم، مما سيخفض سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى 3.2% بحلول نهاية عام 2027. ويعكس هذا التوقع إيمان المشاركين بأن الفيدرالي الأمريكي سيتجه نحو سياسة نقدية أكثر تيسيراً لمواجهة التباطؤ المحتمل في النمو.
إن خفض الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس يعني أن تكلفة الاقتراض ستنخفض بشكل ملموس، مما يحفز الاستثمار والإنفاق الاستهلاكي، ويوفر متنفساً للشركات والأفراد المثقلين بالديون. ومع ذلك، فإن هذا الإجماع بشأن ما سيفعله الفيدرالي الأمريكي لا ينعكس بالضرورة على ما يجب عليه فعله. ففي حين أن 92% يتوقعون الخفض، فإن 66% فقط يعتقدون أنه القرار الصائب، بينما تعارض أقلية قوية بنسبة 38% أي خفض في الوقت الراهن. وتعبر هذه الأقلية عن قلقها من أن التخفيف المبكر للسياسة النقدية قد يؤدي إلى إعادة إشعال فتيل التضخم الذي لم يتم السيطرة عليه بالكامل بعد، خاصة وأن معدل التضخم لا يزال أعلى من هدف الفيدرالي الأمريكي البالغ 2%.
ضبابية البيانات وشبهات “التسييس” تقيد الفيدرالي
تبرز المخاوف الحقيقية بشأن توقيت قرارات الفيدرالي الأمريكي وسلامة الأساس الذي تستند إليه. ففي ظل الإغلاق الحكومي، يتم حجب أو تأخير نشر العديد من المؤشرات الاقتصادية الحيوية، مثل تقارير سوق العمل التفصيلية وبيانات الإنفاق الاستهلاكي الرئيسية، مما يخلق حالة من “ضبابية البيانات”. وقد علّق غاي ليباس، كبير استراتيجيي الدخل الثابت في “جاني مونتغومري سكوت”، محذراً من حالة “الطيران وسط عاصفة معصوبي العينين وبدون أدوات احتياطية”، في إشارة إلى النقص في البيانات الاقتصادية الدقيقة. إن عدم الحصول على صورة واضحة وموثوقة للوضع الاقتصادي يجعل كل قرار للبنك محفوفاً بالمخاطر، وقد يؤدي إلى “مضاعفة خطأ السياسة النقدية”، كما أشارت ليندسي بيغزا، كبيرة الاقتصاديين في “ستيفل”، التي ترى أنه يجب على المسؤولين الانتظار للحصول على مزيد من المعلومات قبل اتخاذ قرار قد لا يكون مبرراً بتطورات التضخم أو التوظيف.
وتأتي المخاوف بشأن التأثير السياسي لتزيد الطين بلة. فقد أشار ريتشارد بيرنشتاين، الرئيس التنفيذي لشركة “ريتشارد بيرنشتاين أدفايزورز”، بوضوح إلى أن “السياسة بدلاً من الأوضاع المالية هي التي تؤثر بوضوح على قرارات الفائدة للفيدرالي”. ويستند هذا الرأي إلى أن الظروف المالية لا تزال ميسرة تاريخياً، ونمو الناتج المحلي الإجمالي يلامس 3.5%-4%، والأصول المالية تشهد ارتفاعات قياسية، بينما يبقى التضخم أعلى بكثير من الهدف المحدد للبنك. وفي الأوقات العادية، كان من المستبعد تماماً أن يفكر الفيدرالي الأمريكي في خفض الأسعار في ظل هذه المعطيات، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك ضغوط غير رسمية تدفع باتجاه سياسة التيسير قبل الانتخابات الرئاسية. هذا الجدل يؤثر على مصداقية البنك واستقلاليته.
فقاعة الذكاء الاصطناعي: الخطر الأكبر على سوق الأسهم
إلى جانب تحديات السياسة النقدية، يواجه المستثمرون شبح “الفقاعة” في قطاع الذكاء الاصطناعي الذي يشهد طفرة غير مسبوقة. حيث يرى ما يقرب من 80% من المشاركين في الاستطلاع أن الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي مبالغ في تقييمها بشكل كبير أو إلى حد ما، بمتوسط يزيد عن 20%، مما يشير إلى أن الأسواق تتداول على التوقعات المستقبلية بدلاً من الأرباح الحالية.
ويختلف المحللون حول ما إذا كانت هذه الطفرة مبررة. فمن ناحية، يرى البعض، مثل ألين سيناي، أن “طفرة الإنتاجية الجارية هي السبب الرئيسي لمرونة الاقتصاد وطفرة سوق الأسهم”، معتبراً أن ما يحدث ليس فقاعة بل تحول هيكلي. ومن ناحية أخرى، تتعالى أصوات التحذير من الانهيار المحتمل. فجون لونسكي، رئيس “مجموعة لونسكي”، كان أكثر حسماً بتوقعه: “بمجرد انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي، لن ينجو إلا المشاركون الأقوياء مالياً في هذا المجال”. وفي حال تحقق سيناريو انفجار الفقاعة، فمن المتوقع أن تشهد الأسواق تصحيحاً حاداً، مما قد يهدد الاستقرار الاقتصادي العام ويدفع الفيدرالي الأمريكي للتحرك بشكل طارئ. وبسبب هذه المخاوف، يتوقع الخبراء أن تنهي الأسهم العام قريبة من مستوياتها الحالية، مع توقعات بارتفاع متواضع بنسبة 5% فقط في العام التالي، على الرغم من التوقعات بوصول مؤشر S&P إلى 7700 نقطة بحلول عام 2027.
تباين المخاطر والتوقعات الاقتصادية الكبرى
كشف الاستطلاع أيضاً عن تباين حاد في آراء المشاركين حول الخطر الأكبر المتمثل في تحرك الفيدرالي الأمريكي دون بيانات كافية:
- 42% يرون أن الخطر يكمن في خفض البنك المركزي للفائدة أكثر من اللازم، مما يعزز التضخم ويغذي المزيد من فقاعات الأصول التي تهدد الاستقرار المالي على المدى الطويل.
- 40% يرون أن الخطر يكمن في خفضه للفائدة أقل من اللازم، مما يهدد بإغراق الاقتصاد في ركود عميق من خلال إبقاء تكاليف الاقتراض مرتفعة لفترة طويلة جداً، ويضر بسوق العمل الذي بدأت تظهر عليه علامات الضعف.
وفيما يتعلق بالتوقعات الاقتصادية الكلية، فقد ارتفعت توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي للعام الحالي إلى 1.9%، تليها 2.2% في 2026، و2.3% في 2027، وهي أرقام تشير إلى “هبوط ناعم” محتمل وليس ركوداً عنيفاً. ويُتوقع أن يبلغ معدل البطالة ذروته عند حوالي 4.5% العام المقبل، وهو معدل لا يزال معتدلاً نسبياً.
وفيما يتعلق بالتضخم، يُتوقع أن ينهي العام عند حوالي 3%، ثم يتراجع هامشياً إلى 2.8% في 2026 و2.6% في 2027، مما يدل على تراجع بطيء ومراقب للتضخم نحو هدف البنك المركزي. ورغم أن التضخم لا يزال مرتفعاً، يرى ما يقرب من ثلثي المشاركين أن تأثير التعريفات الجمركية على التضخم كان أقل مما توقعوا، لكنهم يعتقدون أن السبب في ذلك هو أن “التأثير الكامل على أسعار المستهلك لم يُشعَر به بعد”، أو لأن الشركات تمتص جزءاً من التكلفة بدلاً من تمريرها بالكامل، وهي ظروف يُتوقع ألا تستمر طويلاً.
ختاما يجد الفيدرالي الأمريكي نفسه مضطراً للموازنة بين رغبة السوق والضغوط الاقتصادية لخفض أسعار الفائدة، وبين ضرورة الحفاظ على المصداقية في مكافحة التضخم وتجنب تغذية فقاعات الأصول. إن التحدي الحقيقي للبنك المركزي لا يكمن فقط في اتخاذ قرار الخفض، بل في اتخاذه في بيئة تفتقر إلى البيانات الواضحة وتكثر فيها الشكوك حول دوافع القرار. فإما أن يخاطر بالركود بسبب التشديد المفرط، أو يخاطر بعودة التضخم والاستقرار المالي بسبب التيسير المبكر. تبقى قرارات الفيدرالي الأمريكي في الأشهر القادمة حاسمة لمصير التعافي الاقتصادي العالمي وسوق الأسهم، وستحدد ما إذا كان البنك سيحقق “الهبوط الناعم” المنشود أم لا.
اقرأ أيضا…




