هل يواجه سوق السندات الأمريكية تحديا حقيقيا؟

أطلق الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيجليتز، تحذيراً جديداً للمستثمرين في سوق السندات الأمريكية. ففي ظل الضغوط التي تتعرض لها تكاليف الاقتراض طويلة الأجل في الولايات المتحدة، يرى ستيجليتز أن السوق قد لا يضع في اعتباره بشكل كامل التحديات المالية التي يواجهها أكبر اقتصاد في العالم. هذا التقييم يأتي في وقت حرج، حيث تتزايد فيه التساؤلات حول استدامة الدين الحكومي ومصداقية السياسات المالية المستقبلية.
رؤية ستيجليتز: الأسواق بطيئة في استيعاب الواقع
أكد ستيجليتز، خلال مشاركته في منتدى أمبروسيتي السنوي بإيطاليا، أن الولايات المتحدة ستكون قادرة على تمويل حكومتها، لكنه أشار إلى مؤشر مقلق يتمثل في ارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية المتوقعة على مدى 10 سنوات من 2% إلى 2.5%. هذا الارتفاع، في رأيه، يعكس عدم ثقة السوق في الإدارة المالية الحالية. ويعتقد ستيجليتز أن الأسواق بطيئة في استيعاب حقيقة أن إيرادات التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لن تكون كافية لتمويل العجز الحكومي على المدى الطويل. ويوضح أن الشركات تحتاج إلى وقت لإعادة ترتيب سلاسل التوريد الخاصة بها لتجنب هذه التعريفات. لكن بمجرد أن تفعل ذلك، ستنخفض إيرادات التعريفات بشكل حاد، ما سيجعل الوضع المالي للولايات المتحدة أسوأ مما هو متوقع حالياً.
وللتوضيح، فإن نظرية ستيجليتز مبنية على فهم عميق لديناميكيات التجارة العالمية. ففي البداية، ومع فرض التعريفات، قد تبدو الإيرادات مرتفعة وتغطي جزءاً من العجز، مما يعطي انطباعاً كاذباً بأن السياسة فعالة. ولكن هذا التأثير لا يدوم طويلاً، لأن الشركات ليست كيانات ثابتة، بل هي ديناميكية تسعى دائماً لتحقيق الكفاءة وخفض التكاليف. تماماً مثلما تسعى الجاذبية دائماً لجذب الأجسام نحوها، ستجد الشركات طرقاً لاستيراد السلع بأقل تعريفات ممكنة، إما عن طريق نقل الإنتاج إلى دول أخرى لا تخضع للتعريفات، أو من خلال تعديل منتجاتها لتندرج تحت فئات تعريفية أقل تكلفة.
هذا التغيير في سلوك الشركات يؤدي في نهاية المطاف إلى انخفاض الإيرادات الحكومية المتوقعة من التعريفات، مما يعيد الضغط على الميزانية. ويجادل ستيجليتز بأن هذه الحقيقة الأساسية لم يتم استيعابها بالكامل من قبل المستثمرين في سوق السندات، الذين قد يواصلون تقييم الوضع المالي للولايات المتحدة بناءً على توقعات إيرادات تعريفية غير واقعية على المدى الطويل.
تأثير التعريفات على الاقتصاد الأمريكي
تزامنت هذه التصريحات مع حكم قضائي أصدرته محكمة الاستئناف الفيدرالية، والذي قضى بعدم شرعية معظم تعريفات ترامب على الواردات. هذا الحكم أثار مخاوف من أن تضطر واشنطن إلى إعادة مليارات الدولارات التي تم جمعها من الرسوم الجمركية، ما زاد من الضغط على سوق السندات. لا يقتصر تأثير هذا الحكم على الجانب المالي فقط، بل يرسل إشارة قوية بأن سياسات التعريفات ليست مساراً موثوقاً به لتمويل الإنفاق الحكومي، مما قد يجبر الحكومة على البحث عن مصادر دخل أخرى أو مواجهة تحديات أكبر في إدارة الدين.
كما تزايدت المخاوف بشأن المسار المالي للولايات المتحدة هذا العام، خاصة مع التوقعات بأن خطط ترامب للميزانية قد تضيف تريليونات إلى العجز على مدى العقد المقبل. وحالياً، يبلغ العجز أكثر من 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى مرتفع للغاية لا يتناسب مع فترات الاستقرار الاقتصادي. يشير هذا المستوى من العجز إلى أن البلاد تستهلك أكثر مما تنتج، مما يضع ضغوطاً متزايدة على الدين العام ويجعل الاقتصاد أكثر عرضة للصدمات الخارجية. على سبيل المثال، قد يؤدي العجز المتزايد إلى زيادة الاعتماد على المستثمرين الأجانب لتمويل الدين، مما يجعل الولايات المتحدة أكثر حساسية للتحولات في الثقة العالمية. وقد يدفع هذا الوضع وكالات التصنيف الائتماني إلى إعادة تقييم تصنيف الدين الأمريكي، مما يزيد من تكاليف الاقتراض على المدى الطويل.
العواقب المحتملة على الأفراد والشركات
من جهته، يرى جيسون فورمان، الرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، أن الإدارة السابقة قد رسخت مسار العجز المرتفع. ويشير إلى أن هذا الوضع قد يؤدي إلى آثار سلبية على الاقتصاد، مثل ارتفاع معدلات الرهن العقاري وصعوبة بيئة الاستثمار للشركات. وتأتي هذه العواقب نتيجة مباشرة لزيادة الاقتراض الحكومي، الذي يتنافس مع القطاع الخاص على رؤوس الأموال المتاحة. هذا التنافس يرفع تكلفة الاقتراض بشكل عام، مما يؤثر على قدرة الشركات على التوسع ويجعل شراء المنازل أكثر تكلفة للمستهلكين.
ورغم أن فورمان لا يعتقد أن هذا العجز سيشل الاقتصاد الأمريكي، إلا أنه يؤكد على أن هناك نقطة تحول قد تؤدي إلى أزمة في الاقتراض الأمريكي إذا استمر الوضع على هذا النحو. وقد تتجلى هذه الأزمة في صورة فقدان مفاجئ لثقة المستثمرين الأجانب والمحليين، مما يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال وارتفاع حاد في عوائد السندات، وهو ما يشكل سيناريو بالغ الخطورة على الاستقرار المالي. في مثل هذا السيناريو، قد تجد الحكومة الأمريكية نفسها مضطرة لتقديم عوائد أعلى بكثير على سنداتها لجذب المستثمرين، مما يزيد من عبء خدمة الدين ويقلل من الأموال المتاحة للإنفاق على البرامج الحكومية والخدمات العامة.
نظرة استثمارية: توقعات متضاربة
تظهر تحركات سوق الخزانة الأمريكية هذا العام حالة من الانفصال عن تحركات أسواق الأسهم، حيث لم تعد السندات الملاذ الآمن المفضل في أوقات البيع المكثف. ارتفعت عوائد السندات بشكل حاد بعد إعلان ترامب عن التعريفات، ما يعكس حالة من القلق لدى المستثمرين. فبدلاً من الاندفاع لشراء السندات كملاذ آمن، رأى المستثمرون أن السياسات المالية المتبعة تشكل خطراً في حد ذاتها.
وعلى الرغم من أن البعض يرى أن إيرادات التعريفات قد تستخدم لسداد الديون على المدى الطويل، إلا أن القلق لا يزال يسيطر على سوق السندات، خاصةً على آجال الاستحقاق الطويلة. هذا القلق يتغذى من عدم اليقين بشأن السياسات المستقبلية والقدرة على إدارة الدين العام المتزايد، مما يجعل المستثمرين يطلبون عوائد أعلى لتعويض المخاطر المتصورة. وتتزايد هذه المخاوف بشكل خاص بين المستثمرين الذين يحتفظون بسندات طويلة الأجل، والذين هم الأكثر حساسية للتضخم وارتفاع أسعار الفائدة. وتكمن هذه الحساسية في أن القيمة الحالية لهذه السندات تتأثر بشكل كبير بأي تغييرات في معدلات الفائدة المستقبلية، مما يجعلها أكثر عرضة للتقلبات مقارنة بالسندات قصيرة الأجل.
وفي هذا السياق، يبدو أن المستثمرين في السندات يجدون أنفسهم في موقف صعب. فمن ناحية، هم قلقون من التباطؤ الاقتصادي المحتمل الناتج عن سياسات التعريفات، وهو ما يدفعهم عادةً للبحث عن الأصول الآمنة. ومن ناحية أخرى، فإن نفس هذه السياسات تثير مخاوف بشأن العجز المالي وارتفاع الدين، مما يجعل السندات الحكومية نفسها تبدو محفوفة بالمخاطر. هذا التناقض يضعهم في معضلة استثمارية، ويشرح لماذا لم تعد الأسواق تتصرف بالطرق التقليدية التي كانت سائدة في الماضي.
الاتحاد الأوروبي “حصل على صفقة سيئة”
في سياق متصل، وفي المقابلة ذاتها، صرح ستيجليتز أن الاتحاد الأوروبي “حصل على صفقة سيئة” في اتفاقه التجاري الأخير مع الولايات المتحدة، نظراً لمستويات التبادل التجاري الضخمة بين الطرفين. وفسر ستيجليتز ذلك بأن الصفقة لم تكن مجرد قضية تجارية، بل كانت مرتبطة بالدفاع، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي غير قادر على خوض حرب بمفرده. واعتبر أن عدم إدراك الاتحاد الأوروبي أن الولايات المتحدة لم تعد شريكاً موثوقاً به منذ عام 2017 قد جعله يقبل بأفضل صفقة متاحة له في ظل ظروف غير مواتية.
ويوضح ستيجليتز أن المفاوضات التجارية لم تكن متوازنة منذ البداية بسبب عدم التكافؤ في القوة الجيوسياسية. فالولايات المتحدة، بصفتها قوة عسكرية مهيمنة وحليفة للاتحاد الأوروبي عبر حلف شمال الأطلسي، استخدمت موقفها التفاوحي الأقوى لفرض شروط أكثر ملاءمة لها. وفي الوقت الذي كان الاتحاد الأوروبي يحاول فيه تجنب صراع تجاري شامل، كانت المصالح الأمنية والاعتماد على الولايات المتحدة في قضايا الدفاع بمثابة ورقة ضغط قوية.
ويؤكد ستيجليتز على أن هذه النقطة تكشف عن ضعف استراتيجي عميق في أوروبا. فبينما كانت الولايات المتحدة ترسل رسائل واضحة عبر انسحابها من اتفاقيات دولية وتغيير سياستها الخارجية، لم يتخذ الاتحاد الأوروبي الخطوات اللازمة لبناء قدراته الدفاعية الذاتية بما يقلل من اعتماده على شريك قد لا يكون موثوقاً به دائماً. وهذا الإخفاق الاستراتيجي هو ما دفع بروكسل، في نهاية المطاف، إلى قبول صفقة تجارية غير متوازنة، لأن الخيارات البديلة كانت أسوأ بكثير، وتهدد بتقويض التحالف الدفاعي الذي تعتمد عليه أوروبا بشكل كبير.
اقرأ أيضا…