تحليلاتتحليل الدولار الأمريكيتحليل فوركس

تحليل معمق وموسع لتأثير بيانات الوظائف على أداء الدولار الأمريكي

شهد شهر يوليو من عام 2025 تحولاً لافتاً في المشهد الاقتصادي الأمريكي، حيث ارتفعت خطط خفض الوظائف بشكل ملحوظ، مدفوعة بعوامل هيكلية وتجارية مثل التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي وتطبيق تعريفات جمركية جديدة.

ومع ذلك، وعلى النقيض من التوقعات التقليدية التي قد تربط بين تسريح العمال وضعف العملة، اختتم الدولار الأمريكي الشهر بأداء قوي ومثير للإعجاب. يهدف هذا التحليل إلى الغوص عميقاً في العلاقة المعقدة والمتشابكة بين بيانات سوق العمل وأداء الدولار، وكيف توازنت هذه العوامل المتناقضة لتشكل مسار العملة الخضراء، مؤكدة على أن الصورة الاقتصادية غالباً ما تكون أكثر تعقيداً من مجرد قراءة سطحية للمؤشرات الفردية.

تصاعد خطط خفض الوظائف: الأسباب الهيكلية والتداعيات الاقتصادية

كشفت بيانات شركة تشالنجر، جراي آند كريسماس، المتخصصة في خدمات إعادة التوظيف، عن إعلان الشركات الأمريكية عن خطط لخفض 62,075 وظيفة في يوليو 2025. هذا الرقم لا يمثل فقط قفزة حادة مقارنة بـ 25,900 وظيفة في نفس الشهر من العام السابق، بل يتجاوز بكثير المتوسط الشهري منذ بداية جائحة كوفيد-19. ما يثير الانتباه هو أن هذا العدد هو ثاني أعلى رقم لخفض الوظائف في شهر يوليو خلال العقد الماضي، ولا يتجاوزه سوى الرقم القياسي المسجل في يوليو 2020، الذي كان يمثل ذروة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الجائحة. هذا يشير إلى أن الشركات تواجه ضغوطاً كبيرة، وإن كانت مختلفة عن تلك التي شهدتها في ذروة الوباء، حيث تتجه نحو إعادة هيكلة أعمق.

تعددت الأسباب التي ساقتها الشركات لتبرير هذه التخفيضات، والتي تعكس تحولات هيكلية في الاقتصاد العالمي. برز الذكاء الاصطناعي كعامل رئيسي ومحفز للتغيير، حيث تسعى الشركات، خاصة في قطاع التكنولوجيا، إلى دمج حلول الذكاء الاصطناعي لزيادة الكفاءة التشغيلية وخفض التكاليف بشكل جذري. هذا لا يعني فقط أتمتة المهام الروتينية، بل يشمل أيضاً إعادة تعريف أدوار وظيفية كاملة.

على سبيل المثال، قد تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى تقليل الحاجة إلى موظفي خدمة العملاء، أو محللي البيانات الذين يقومون بمهام متكررة، أو حتى بعض وظائف الإدارة الوسطى التي يمكن استبدالها بأنظمة اتخاذ القرار المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

هذا التحول يجبر الشركات على إعادة تدريب موظفيها أو تسريح من لا تتناسب مهاراتهم مع المتطلبات الجديدة، مما يؤدي إلى إعادة هيكلة واسعة النطاق للقوى العاملة. أعلنت شركة إنتل عن خطط لخفض 15% من قوتها العاملة، في حين بدأت مايكروسوفت جولة ثانية من التسريحات تؤثر على 9,000 عامل، مما يؤكد هذا الاتجاه نحو الاستفادة من استثمارات الذكاء الاصطناعي الضخمة لتحقيق وفورات في التكاليف في مجالات أخرى من العمليات.

بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي، لعبت التعريفات الجمركية دوراً حاسماً، خاصة في قطاعات مثل صناعة السيارات. هذه التعريفات، التي تفرض رسوماً إضافية على السلع المستوردة، تؤدي إلى زيادة تكاليف المواد الخام والمكونات للشركات المصنعة محلياً، أو تجعل منتجاتها النهائية أقل قدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية بسبب ارتفاع أسعارها.

هذا الضغط على الهوامش الربحية وحجم المبيعات يدفع الشركات إلى إعادة تقييم حجم عملياتها وتقليص الإنتاج، وبالتالي خفض الوظائف لخفض التكاليف التشغيلية. كما ساهمت حالة عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية بشكل عام في موجة التسريحات وإغلاق المتاجر في قطاع التجزئة. فمع تراجع ثقة المستهلك وتردده في الإنفاق على السلع غير الأساسية، وتأثر سلاسل التوريد العالمية، تجد الشركات نفسها أمام انخفاض في الإيرادات، مما يدفعها إلى تقليص حجمها وتكاليفها لمواجهة هذه الظروف الصعبة.

لم تقتصر التخفيضات على القطاع الخاص. أظهر تقرير تشالنجر أيضاً أن تخفيضات الميزانية الفيدرالية بدأت تلقي بظلالها على المنظمات غير الربحية ومؤسسات الرعاية الصحية. هذه الكيانات، التي تعتمد بشكل كبير على التمويل الحكومي عبر المنح والعقود، وجدت نفسها مضطرة لخفض نفقاتها وتقليص عدد موظفيها استجابة لتقليص الدعم الحكومي. هذا يؤدي إلى تأثير مضاعف، حيث تتأثر الخدمات التي تقدمها هذه المنظمات، ويخسر الأفراد وظائفهم في قطاعات حيوية تعتمد بشكل كبير على الاستقرار المالي الحكومي.

مرونة سوق العمل: مؤشرات الاستقرار والقدرة على الامتصاص

على الرغم من الإعلانات المتزايدة عن خطط خفض الوظائف، من المهم الإشارة إلى أن هذه الخطط لا تترجم بالضرورة إلى تسريحات فورية أو واسعة النطاق تؤثر بشكل دراماتيكي على معدل البطالة. غالباً ما تعلن الشركات عن نيتها لخفض الوظائف مسبقاً كجزء من استراتيجية طويلة الأجل، وقد يتم تنفيذ هذه الخطط على مراحل تدريجية. يمكن أن يتم ذلك من خلال عدم تجديد العقود المؤقتة، أو عدم ملء الشواغر التي تنشأ عن التقاعد الطبيعي أو الاستقالات (الاستنزاف الطبيعي)، أو حتى من خلال تقديم برامج التقاعد المبكر الطوعية، بدلاً من اللجوء إلى التسريحات الجماعية القسرية. هذا يمنح سوق العمل بعض المرونة لامتصاص الصدمات وتقليل التأثير الفوري على أرقام البطالة الإجمالية.

في الواقع، ظل سوق العمل الأمريكي مستقراً بشكل ملحوظ في يونيو، حيث حافظ معدل البطالة على مستوى منخفض بلغ 4.1%. هذا المعدل يشير إلى سوق عمل صحي وقوي بشكل عام، حيث لا يزال هناك طلب كبير على العمالة في العديد من القطاعات، مما يساعد على استيعاب جزء من العمال المسرحين من قطاعات أخرى.

ومع أن التوقعات لتقرير التوظيف لشهر يوليو تشير إلى ارتفاع طفيف في معدل البطالة إلى 4.2%، مع تباطؤ في نمو الوظائف، فإن هذا الارتفاع لا يزال ضمن نطاق يعتبر صحياً ولا يشير إلى تدهور كبير في سوق العمل. غالباً ما تكون هذه التقلبات الطفيفة جزءاً طبيعياً من ديناميكية سوق العمل، وقد تعكس دخول عدد أكبر من الأفراد إلى القوى العاملة بحثاً عن عمل، مما يرفع معدل البطالة بشكل مؤقت دون أن يعني ضعفاً هيكلياً. إن قدرة الاقتصاد على الحفاظ على معدل بطالة منخفض نسبياً، حتى في ظل إعلانات خفض الوظائف، تعكس مرونة وقوة كامنة في الاقتصاد الأمريكي.

الأداء القوي للدولار الأمريكي: محركات الصعود والسياسة النقدية

في تناقض واضح مع بيانات خفض الوظائف، اختتم الدولار الأمريكي شهر يوليو بأداء استثنائي، مسجلاً أفضل شهر له في عام 2025. ارتفع مؤشر بلومبرج للدولار الفوري بنسبة 2.5%، وهو الشهر الإيجابي الوحيد للعملة منذ تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه في يناير 2025. هذا الارتفاع يعكس ثقة المستثمرين المتزايدة في الاقتصاد الأمريكي وقدرته على تجاوز التحديات، ويدل على أن العوامل الكلية الاقتصادية كانت أكثر تأثيراً من بيانات التوظيف الجزئية.

جاء هذا الأداء مدعوماً بشكل أساسي ببيانات اقتصادية قوية ومفاجئة، أبرزها نمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 3% في الربع الثاني. هذا النمو القوي، خاصة في ظل خلفية من التغيرات في السياسة التجارية العالمية، فاجأ العديد من المحللين وأكد مرونة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على التكيف. إن معدل النمو هذا يعتبر “طباعة قوية” (solid print) في أي بيئة اقتصادية، ويشير إلى نشاط اقتصادي قوي يدعم العملة. كما لعبت تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول دوراً محورياً، حيث ألمح إلى أن أسعار الفائدة قد تظل مرتفعة لفترة أطول مما كان متوقعاً. هذا التلميح، الذي جاء بعد فترة من التوقعات بخفض وشيك لأسعار الفائدة، دفع مؤشر الدولار للارتفاع بشكل كبير. السبب يكمن في أن أسعار الفائدة المرتفعة تجذب المستثمرين الأجانب الباحثين عن عوائد أعلى على استثماراتهم في السندات والأصول المقومة بالدولار (ما يعرف بـ “carry trade”)، مما يزيد الطلب على العملة الخضراء وبالتالي يعزز قيمتها.

علاوة على ذلك، دعمت بيانات التضخم الأخيرة ارتفاع الدولار. فقد زاد مقياس التضخم المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي في يونيو بأحد أسرع الوتائر هذا العام، مما يؤكد أن التقدم في كبح التضخم لا يزال محدوداً. هذا الواقع يعزز حجة الاحتياطي الفيدرالي للحفاظ على أسعار الفائدة مرتفعة، أو على الأقل عدم خفضها بسرعة، لتحقيق هدفه في استقرار الأسعار. ونتيجة لذلك، تغيرت توقعات السوق بشكل كبير؛ فبعد أن كان خفض أسعار الفائدة في سبتمبر يبدو مؤكداً قبل تصريحات باول، تشير توقعات مبادلات أسعار الفائدة الآن إلى فرصة 40% فقط لخفض في سبتمبر، و 80% لخفض في أكتوبر. هذا التحول الدراماتيكي في التوقعات يعكس إدراك السوق بأن الاحتياطي الفيدرالي سيظل حذراً بشأن التضخم ويتبنى سياسة نقدية أكثر تشدداً مما كان متوقعاً، مما يوفر دعماً إضافياً قوياً للدولار.

عوامل إضافية تعزز مكانة الدولار عالمياً

ساهمت عدة عوامل أخرى في تعزيز أداء الدولار القوي، مؤكدة على مكانته كعملة ملاذ آمن وقوة اقتصادية عالمية:

  • الصفقات التجارية المواتية: نجح الرئيس دونالد ترامب في إبرام صفقات تجارية يُنظر إليها على أنها أكثر فائدة للولايات المتحدة مقارنة بشركائها التجاريين. هذه الصفقات، التي تعزز الموقف الاقتصادي التفاوضي للولايات المتحدة، يمكن أن تؤدي إلى تحسين شروط التجارة، وزيادة الصادرات الأمريكية، وتقليل العجز التجاري، مما يعزز الثقة في الاقتصاد الأمريكي وبالتالي يدعم الدولار. إنها تعكس استراتيجية “أمريكا أولاً” التي تسعى إلى تحقيق مكاسب اقتصادية مباشرة للولايات المتحدة.
  • جاذبية سوق الأسهم الأمريكية: يشهد سوق الأسهم الأمريكي ارتفاعاً ملحوظاً، حيث يتجه مؤشر S&P 500 نحو تسجيل مكاسب للشهر الثالث على التوالي. هذا الأداء القوي يجذب تدفقات رأسمالية ضخمة من المستثمرين حول العالم، الذين يبحثون عن عوائد مرتفعة وفرص نمو. يحتاج هؤلاء المستثمرون إلى الدولار لشراء الأسهم الأمريكية، مما يزيد من الطلب على العملة. كما أن قوة سوق الأسهم تعكس ثقة الشركات والمستثمرين في مستقبل الاقتصاد الأمريكي.
  • هيمنة شركات التكنولوجيا في سباق الذكاء الاصطناعي: تعكس الأرباح القياسية لشركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة هيمنة أمريكا في سباق تطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته. هذه الريادة التكنولوجية لا تجعل الولايات المتحدة وجهة جذابة للاستثمار في الشركات المبتكرة فحسب، بل تعد أيضاً بمستقبل اقتصادي مزدهر من خلال خلق صناعات جديدة ذات قيمة عالية وزيادة الإنتاجية على المدى الطويل. هذا التدفق للاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر يعزز تدفق الأموال إلى الاقتصاد الأمريكي ويدعم الدولار.
  • استقرار احتياطيات النقد الأجنبي: على الرغم من المخاوف السابقة من تخلي المستثمرين الدوليين عن ممتلكاتهم المقومة بالدولار، تشير البيانات الحديثة إلى عكس ذلك. فقد ارتفعت حيازات المستثمرين الأجانب من سندات الخزانة الأمريكية في مايو، وظلت حصة الدولار الأمريكي من احتياطيات النقد الأجنبي المخصصة للسلطات النقدية العالمية ثابتة في الربع الأول من عام 2025. هذا يؤكد مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسية على مستوى العالم، ويقلل من المخاوف بشأن تآكل مكانته. إن استمرار الثقة العالمية في الدولار كعملة احتياطية وملاذ آمن في أوقات عدم اليقين يعزز الطلب عليه ويساهم في استقراره.

لخص ناثان ثوفت، مدير المحافظ الأول في Manulife Investment Management، الوضع بقوله: “بعد فترة من الضعف الكبير، شهدنا الدولار يجد بعض العروض في ظل مرونة البيانات الاقتصادية الأمريكية، والتقدم في مفاوضات التعريفات الجمركية، واستنزاف عمليات البيع.” كما أشار بن فورد، خبير استراتيجيات العملات الأجنبية في Macro Hive، إلى أنه “للاستمرار في بيع الدولار مقابل سلة من العملات، سنحتاج إلى شيء جذري من ترامب أو تباطؤ اقتصادي يتركز في الولايات المتحدة.” هذه التصريحات تؤكد على أن العوامل الكلية والسياسية تلعب دوراً حاسماً في تحديد مسار الدولار.

تأثير متباين على العملات الأخرى وديناميكيات السوق

كان لارتفاع الدولار تأثير متباين على العملات الرئيسية الأخرى، مما يسلط الضوء على الفروقات في القوة الاقتصادية والسياسات النقدية بين الدول. انخفض اليورو بنسبة 3% تقريباً مقابل الدولار هذا الشهر، مع تحذير قادة الصناعة الألمان من أن التعريفات الجمركية الأمريكية ستجعل أوروبا أقل قدرة على المنافسة. هذه التعريفات تزيد من تكلفة الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة، وتجعل الواردات الأمريكية أكثر جاذبية، مما يضر بالميزان التجاري الأوروبي ويضعف اليورو. وصف برنت دونيلي، رئيس Spectra Markets، الاتفاق التجاري بأنه “يعزز النموذج القديم للهيمنة الأمريكية”، مضيفاً أنه “مهما كانت تفاصيل الصفقة، يبدو أنها إحراج لأوروبا.” هذا يعكس الشعور بأن الولايات المتحدة خرجت بمكاسب أكبر من هذه المفاوضات التجارية.

كان الين الياباني والجنيه الإسترليني الأسوأ أداءً في مجموعة العشرة مقابل الدولار في يوليو، حيث فقدا 3.5% أو أكثر من قيمتهما. ويعزى هذا الضعف جزئياً إلى الفروقات في السياسات النقدية، حيث قد تكون البنوك المركزية في اليابان والمملكة المتحدة تتبع مساراً أقل تشدداً من الاحتياطي الفيدرالي، بالإضافة إلى تحديات اقتصادية داخلية. في المقابل، كان الدولار الكندي الأقل تضرراً، مما يشير إلى مرونة نسبية مدعومة بعوامل محلية مثل أسعار السلع الأساسية القوية وعلاقاته التجارية الوثيقة مع الولايات المتحدة.

بالنظر إلى الأشهر المقبلة، تظهر خيارات التداول أن المتداولين يتوقعون مكاسب متواضعة للدولار، وهو ما يتناقض مع توقعاتهم في مايو ويونيو، عندما كانوا يراهنون على المزيد من الانخفاض. هذا التحول في المعنويات يعكس الثقة المتزايدة في استمرار قوة الدولار، مدفوعاً بالتوقعات الاقتصادية والسياسة النقدية.

اقرأ أيضا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى