تحليلاتتحليل الدولار الأمريكيتحليل فوركس

لماذا تكافح البنوك المركزية العالمية للتخلي عن هيمنة الدولار الأمريكي؟

على الرغم من التوجه العالمي نحو نظام احتياطي متعدد الأقطاب، لا يزال الدولار الأمريكي يحتفظ بمركزه المهيمن كعملة احتياطية رئيسية. هذا ما كشفه مسح حديث صادر عن “المنتدى الرسمي للمؤسسات النقدية والمالية” (OMFIF)، الذي سلَّط الضوء على مفارقة اقتصادية تواجه البنوك المركزية العالمية: رغبة متزايدة في التنويع، مقابل إبقاء العوائد المالية مربوطة بالعملة الأمريكية.

ضم المسح مجموعة عمل رفيعة المستوى من 10 بنوك مركزية، تنتمي ستة منها إلى دول مجموعة العشرين واثنان إلى مجموعة السبع، وهي تدير مجتمعة ما يقارب 6.5 تريليون دولار من الأصول العالمية. وخلص التقرير إلى أن ما يقرب من 60% من المشاركين يطمحون إلى تنويع احتياطياتهم بعيداً عن الدولار الأمريكي، مدفوعين بتطورات جيوسياسية واقتصادية. إلا أن عامل “السيولة غير المحدودة” لسندات الخزانة الأمريكية يظل القيد الأكبر، مما يُبقي العملة الأمريكية في موقع القوة، ويجعل القرار العملي يتفوق على الرغبة في التنويع.

معضلة الدولار: السيولة مقابل التنويع

لطالما كان وضع الدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمية محور تساؤلات مكثفة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع تنامي التوترات التجارية العالمية والسياسات الجمركية التي تنتهجها بعض الإدارات الأمريكية، إلى جانب الشكوك التي تثار حول استقلالية الاحتياطي الفيدرالي. ورغم هذه العوامل التي تضعف الثقة، يشير التقرير إلى أن العالم يتجه بالفعل نحو نظام احتياطي متعدد الأقطاب. تُعد عملتا اليورو واليوان الصيني مرشحتين نظرياً للاستفادة من هذا التحول، بيد أن التحدي الأكبر يكمن في استمرار الفجوة الهائلة في العمق والثقة.

يؤكد هذا التناقض أن الأولوية القصوى للبنوك المركزية، رغم أي دافع سياسي، تبقى على “المرونة والسيولة” (الدولار الأمريكي). هذه العوامل تضيّق نطاق الأصول الاحتياطية التي يمكن النظر فيها. فسيولة سندات الخزانة الأمريكية لا تضاهى عالمياً؛ إذ تضمن سهولة شراء وبيع كميات هائلة من الأصول بأقل تأثير ممكن على الأسعار وبأقل تكلفة للمعاملات، وهو ما يُعرف بـ “عمق السوق”. هذه الميزة الحاسمة تضمن للبنوك المركزية قدرتها على التدخل السريع في أسواق الصرف أو تمويل ديونها في أي لحظة. وفي ظل غياب بديل يتمتع بنفس العمق والسيولة والثقة الذي توفره أسواق الدين الأمريكية، يظل التمسك بـ الدولار الأمريكي قراراً عملياً يعكس الحاجة إلى الاستقرار المالي.

الذكاء الاصطناعي: أداة تحليل بقلق متزايد

لم يقتصر المسح على العملات، بل كشف أيضاً عن موقف البنوك المركزية من التكنولوجيا المتقدمة. فقد أظهرت النتائج أن الذكاء الاصطناعي (AI) لا يمثل بعد جزءاً أساسياً من العمليات في غالبية البنوك (أكثر من 60% من المستجيبين). وتقتصر تطبيقاته المبكرة على مهام تحليلية روتينية وبسيطة، مثل تلخيص كميات هائلة من البيانات الاقتصادية أو مسح تحركات الأسواق المالية وتوليد التقارير الإحصائية. وهذا يختلف كلياً عن استخدامه في المهام الأساسية كإدارة المخاطر التشغيلية، أو بناء المحافظ الاستثمارية المعقدة، أو صياغة السياسات النقدية.

الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن المؤسسات التي تعمقت في استخدام الذكاء الاصطناعي هي الأكثر حذراً من مخاطره. تركز المخاوف على أن السلوكيات المدفوعة بالذكاء الاصطناعي قد “تسرّع من الأزمات المستقبلية”. ويعود هذا الخوف إلى فكرة أن الخوارزميات، إذا ما تم تصميمها على نحو خاطئ أو إذا بدأت تتفاعل مع بعضها البعض على نحو غير متوقع، يمكن أن تؤدي إلى “انهيارات خاطفة” (Flash Crashes) أو عدوى سريعة عبر النظام المالي، مما يزيد من صعوبة السيطرة على الأزمات. وكما نُقل عن أحد المشاركين، فإن “الذكاء الاصطناعي يساعدنا على الرؤية بشكل أفضل، لكن القرارات يجب أن تبقى بأيدي البشر”، مما يؤكد أن الإشراف البشري لا يزال أمراً حتمياً.

الأصول الرقمية: اهتمام بالترميز وحذر من العملات المشفرة

أخيراً، أظهر المسح حذراً كبيراً تجاه الأصول الرقمية، حيث أن الأغلبية الساحقة من البنوك (93%) لا تستثمر في هذه الأصول. ويُنظر إلى “ترميز الأصول” (Tokenisation) بـ “الاهتمام”، بينما تُقابَل العملات المشفرة بـ “الحذر”. هذا التمييز يشير إلى أن البنوك المركزية قد تكون مستعدة لتبني التكنولوجيا الكامنة وراء الأصول الرقمية (البلوكتشين)، ولكنها ترفض المخاطر المرتبطة بالعملات المشفرة غير المنظمة، متمسكة بمبدأ الاستقرار والحماية التنظيمية.

في المحصلة، يواجه النظام المالي العالمي تحديين متزامنين: الحاجة الملحة إلى إيجاد بديل عملي للدولار الأمريكي يضاهي سيولته، والحذر الشديد من دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات الأساسية خوفاً من تسريع وتيرة الأزمات. وتؤكد نتائج المسح أن البنوك المركزية تتحرك بخطوات محسوبة نحو المستقبل، حيث السيولة هي الملك، والحذر التكنولوجي هو القاعدة.

اقرأ أيضا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى