البنوك الفيدرالية الإقليمية هي الجبهة القادمة في صراع ترامب على السياسة النقدية

لأكثر من عقد من الزمان، كانت عملية إعادة تعيين رؤساء البنوك الفيدرالية الإقليمية الاثني عشر تُعد إجراءً روتينياً بيروقراطياً، حيث يُعاد تثبيت القادة الحاليين في مناصبهم بأغلبية ساحقة من مجلس المحافظين في واشنطن كل خمس سنوات. كان هذا الروتين يعكس إجماعاً غير معلن على الفصل بين المهنية النقدية والتدخل السياسي المباشر. لكن هذا الإجراء الهادئ تحول فجأة إلى ساحة معركة جديدة محتملة في حملة الرئيس دونالد ترامب الطموحة لزيادة نفوذه على صياغة السياسة النقدية الأمريكية وتحديد أسعار الفائدة.
ومع اقتراب موعد انتهاء فترة ولاية عدد من رؤساء البنوك الفيدرالية الإقليمية في فبراير المقبل، ومع إعلان رئيس بنك أتلانتا الفيدرالي، رافائيل بوستيك، تقاعده المفاجئ والمبكر، سلط الضوء بحدة على هذه العملية الإدارية التي لم تكن تحظى باهتمام كبير. ويأتي هذا التطور بعد شهرين فقط من محاولة ترامب إقالة حاكمة الاحتياطي الفيدرالي ليزا كوك، ما يؤكد عزمه على توسيع نطاق نفوذه داخل الهيكل المعقد للبنك المركزي. إن استهداف البنوك الإقليمية الآن يمثل تحولاً تكتيكياً، حيث ينتقل الصراع من رأس الهرم (مجلس المحافظين) إلى فروعه التنفيذية الإقليمية.
تزايد الضغط على استقلال الاحتياطي الفيدرالي وعواقبه الاقتصادية
لطالما كان استقلال البنوك المركزية عن النفوذ السياسي المباشر مبدأً اقتصادياً راسخاً ومقدساً في الأوساط المالية العالمية، مدعوماً بدراسات وافية تشير إلى أن تآكل هذا الاستقلال يؤدي إلى نتائج اقتصادية أسوأ بكثير، أبرزها ارتفاع معدلات التضخم وعدم استقرار السوق. ويعود السبب في ذلك إلى أن البنوك المركزية المستقلة يمكنها اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة على المدى القصير (مثل رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم) دون خوف من التداعيات السياسية الفورية. ومع ذلك، لم يتوقف ترامب عن توجيه الانتقادات اللاذعة لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول ومطالبته المتكررة والعلنية بخفض أسعار الفائدة لدعم نمو مؤقت ومكاسب انتخابية سريعة.
يتمحور الصراع حالياً بشكل حاسم حول مجلس محافظي البنوك الفيدرالية السبعة في واشنطن، والذي أصبح منقسماً سياسياً بشكل غير مسبوق: ثلاثة من أعضائه تم تعيينهم من قبل الرئيس جو بايدن، وثلاثة من قبل ترامب (بما في ذلك تعيينه الأخير لعضو من فريقه الاقتصادي بالبيت الأبيض)، مما يخلق حالة توازن هشّة قد تجعل القرارات العادية صعبة للغاية. ومع اقتراب انتهاء ولاية باول كرئيس للاحتياطي الفيدرالي في مايو، يتوقع أن يرشح ترامب اختياره لقيادة النظام بأكمله في حال فوزه بالانتخابات. هذا يجعل كل قرار وتعيين داخلي، حتى في البنوك الإقليمية، أمراً ذا أهمية قصوى في تشكيل الرؤية المستقبلية والميل السياسي للبنك المركزي.
صلاحيات رؤساء البنوك الفيدرالية وتأثيرها الحاسم على السياسة النقدية
تضطلع البنوك الإقليمية بمهام حيوية تتجاوز الإشراف المصرفي والأبحاث الاقتصادية وخدمات المقاصة؛ إذ يشارك خمسة من رؤسائها سنوياً، بالتناوب، في التصويت على السياسة النقدية في اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC)، وهي الهيئة الرئيسية المسؤولة عن تحديد أسعار الفائدة والتحكم في عرض النقود. هذا التمثيل المتبادل يجسد هيكلية تقاسم السلطة الفريدة داخل النظام الفيدرالي. إن صوت كل رئيس بنك إقليمي له ثقله في تحديد ما إذا كانت أسعار الفائدة سترتفع أو تنخفض، وهو أمر حيوي لاسيما في ظل الانقسام الحاصل داخل مجلس المحافظين في واشنطن.
وبينما تتولى مجالس إدارة البنوك الإقليمية (المكونة من رجال أعمال ومصرفيين وقادة مجتمعيين من المنطقة) اختيار الرئيس الإقليمي، يجب أن يحظى هذا الاختيار بموافقة مجلس المحافظين في واشنطن لكي يصبح سارياً. هذا الشرط هو مفتاح النفوذ الرئاسي والسياسي المحتمل. في السنوات الأخيرة، أظهرت الإدارة رغبة في استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مرشحين إقليميين سابقين، مشيرة إلى أن هذا يمنحها القدرة على فرض شخصيات أكثر توافقاً مع رؤيتها الاقتصادية على قيادة البنوك الإقليمية.
وفي تطور لافت للنظر، تدعم آراء قانونية ظهرت خلال فترة ولاية ترامب الأولى فكرة أن مجلس المحافظين يمتلك صلاحيات واسعة لإقالة الرؤساء الإقليميين “حسب الرغبة” ودون الحاجة إلى إبداء سبب. فقد جادل نائب مساعد المدعي العام في الإدارة حينها، هنري ويتاكر، في مذكرة عام 2019، بأن سلطة تعيين الرؤساء تمنح مجلس المحافظين سلطة إقالتهم، دون أن يهدد ذلك استقلالية النظام ككل، طالما ظل المحافظون أنفسهم محصنين بموجب القانون. هذه المذكرة تمثل الأساس القانوني الذي قد يعتمد عليه أي رئيس مستقبلي لإجراء تغييرات جذرية في القيادات الإقليمية للبنوك الفيدرالية.
التقاعد المبكر والتلويح بالإقالة علامة تحذير
يُعتبر تقاعد رافائيل بوستيك، الذي كان أول رئيس أسود ومثلي الجنس لبنك إقليمي، أمراً ملفتاً، خاصة وأنه أقل بخمس سنوات من سن التقاعد الإلزامي. وقد تعرض بوستيك لانتقادات من المحافظين، ووُصف بأنه “صوت” للبنك المركزي “الواعي اجتماعياً” بسبب مواقفه العلنية بشأن قضايا العدالة العرقية والاقتصادية وتفاوت الثروات. كما سبق أن تم توبيخه داخلياً بسبب قضايا تتعلق بالاستثمار الشخصي. هذه العوامل تظهر أن هناك ذخيرة سياسية جاهزة للاستخدام في حال أراد ترامب ومؤيدوه ممارسة الضغط على رؤساء البنوك الإقليمية الذين لا يتماشون مع توجهاتهم.
على الرغم من أن التوقعات تشير إلى أن رؤساء البنوك الفيدرالية الحاليين سيعاد تعيينهم في هذه الجولة إذا لم تحدث مفاجآت، خاصة إذا استمرت ليزا كوك في منصبها، فإن المحللين يحذرون من أن مجرد إلقاء الضوء على هذه الثغرة القانونية المتعلقة بسلطة الإقالة يشكل “علامة تحذير” خطيرة. هذا التهديد القانوني قد يؤدي إلى “تأثير تبريدي” (chilling effect)، حيث يختار قادة البنوك الإقليمية الجدد أو أولئك الذين يسعون لإعادة التعيين التزام الصمت أو توجيه أبحاثهم نحو قضايا أقل حساسية سياسياً، خوفاً من مواجهة مصير الإقالة التعسفية.
إن أي محاولة ناجحة لفرض الإقالة والتأثير على اختيار الخلفاء قد تؤدي إلى معركة قانونية معقدة ومطولة في المحاكم الأمريكية، لكن الأهم هو أنها قد “تؤدي إلى تغيير حقيقي وجذري في طريقة صياغة السياسة النقدية” الأمريكية. إن هذا التسييس يهدد بتآكل مصداقية الاحتياطي الفيدرالي، وهو الأمر الذي قد يعرض استقرار الاقتصاد الأكبر عالمياً للخطر من خلال إضعاف ثقة الأسواق في قرارات البنك المركزي.
اقرأ أيضا…


