أخبار الأسواقاخبار اقتصادية

التضخم في بريطانيا: تحليل معمق للأسباب والتحديات الاقتصادية

من المتوقع أن يسجل التضخم في بريطانيا (Inflation in the UK) معدلات هي الأعلى بين الاقتصادات الغنية الكبرى في العالم، حيث تشير البيانات المرتقبة إلى وصوله إلى حوالي 4% في شهر سبتمبر. هذا المعدل يمثل ضعف الهدف الذي حدده بنك إنجلترا (Bank of England) بنسبة 2% ويفرض ضغوطاً هائلة على الأسر البريطانية التي تعاني أصلاً من أزمة تكلفة المعيشة.

على الرغم من أن هذا المعدل لا يقترب من ذروة التضخم في بريطانيا التي بلغت 11.1% في عام 2022، والتي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنه يبقي تكاليف الاقتراض مرتفعة بشكل ملحوظ. هذا يعني أن قرار بنك إنجلترا بخفض أسعار الفائدة سيظل مؤجلاً، مما يضع عبئاً إضافياً على المقترضين ويزيد من تكلفة تمويل المشاريع الحكومية والخاصة على المدى القصير. يضاف هذا التحدي إلى كاهل وزيرة المالية راشيل ريفز التي تواجه معضلة سياسية واقتصادية: فقد وعدت الناخبين بتخفيف ضغوط تكاليف المعيشة وتسريع النمو الاقتصادي، بينما من المرجح أن تضطر لزيادة الضرائب في ميزانيتها الشهر المقبل لمعالجة الدين العام، مما قد يزيد من حدة التضخم ويقوض وعودها بالاستقرار.

لماذا يبقى التضخم في بريطانيا الأعلى بين الاقتصادات المتقدمة؟

ظل معدل التضخم في بريطانيا أعلى بكثير من نظرائه الأوروبيين، حيث بلغ 3.8% في أغسطس، مقارنة بـ 2.0% في منطقة اليورو. هذا التباين يشير إلى وجود محركات داخلية فريدة تؤجج أزمة ارتفاع الأسعار البريطانية، مرتبطة بتركيبة سوق العمل والقرارات التنظيمية.

1. نمو الأجور وشح العمالة

أحد العوامل الرئيسية لارتفاع الأسعار هو النمو السريع والمستمر في الأجور. يعود هذا النمو جزئياً إلى نقص العمالة المستمر منذ جائحة كورونا، والذي تفاقم بسبب عوامل هيكلية مثل خروج عدد كبير من العمال من سوق العمل مبكراً وقيود الهجرة الناتجة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). هذه الظروف أدت إلى تقلص مجمع العمالة المتاحة، ما منح العمال قوة تفاوضية أكبر. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الزيادات المتكررة والمهمة في الحد الأدنى الوطني للأجور وفي ضرائب أصحاب العمل في رفع التكاليف التشغيلية للشركات. تدفع هذه الزيادة في تكاليف العمالة، التي تعد مدخلاً أساسياً في الخدمات، الشركات إلى تمريرها إلى المستهلكين على شكل أسعار أعلى، مما يخلق حلقة مفرغة من ارتفاع الأجور والأسعار.

2. تأثير العوامل الحكومية والرسوم الإدارية

تلعب الأسعار المتأثرة بالسياسات الحكومية دوراً كبيراً في دفع التضخم في بريطانيا. هذه الأسعار، التي يشار إليها بـ “الأسعار الإدارية” (Administered Prices)، تأتي من قطاعات منظمة تخضع للتأثير المباشر للجهات الحكومية أو التنظيمية. فقد ارتفعت هذه الرسوم في بريطانيا بشكل حاد مقارنة بمنطقة اليورو، وتشمل هذه الارتفاعات:

  • رسوم الصرف الصحي الأعلى الناتجة عن قرارات الجهات التنظيمية.
  • زيادات في أسعار تذاكر الحافلات ورسوم ضريبة المركبات.
  • فرض ضريبة القيمة المضافة (VAT) على رسوم المدارس الخاصة، مما يزيد العبء المالي على الأسر التي تختار التعليم الخاص.

قدّر جاك مينينغ، كبير الاقتصاديين البريطانيين في بنك باركليز، أن معدل التضخم في أغسطس كان سيصل إلى حوالي 2.9% فقط إذا تم استبعاد تأثير الزيادات الضريبية في ميزانية العام الماضي وتأثير الرسوم الإدارية، مما يسلط الضوء على المساهمة المباشرة للسياسات العامة في إبقاء التضخم في بريطانيا مرتفعاً.

3. ضغوط أسعار الغذاء المستمرة وتوقعات التضخم

على الرغم من أن أسعار الطاقة قد بدأت في ممارسة ضغط هبوطي كبير على التضخم في بريطانيا في أواخر 2023 و 2024، فمن المرجح أن ترتفع أسعار المواد الغذائية أكثر. يلقي تجار التجزئة باللوم في زيادة الأسعار حتى الآن على ضريبة التغليف الجديدة، بالإضافة إلى ارتفاع مساهمات الضمان الاجتماعي لأصحاب العمل والحد الأدنى للأجور، إلى جانب الأسعار العالمية للمدخلات الزراعية. والأخطر، يخشى بنك إنجلترا من أن تؤدي أسعار الغذاء المرتفعة إلى رفع توقعات التضخم لدى المستهلكين والشركات، مما يجعل ضغوط الأسعار راسخة في الاقتصاد. عندما يتوقع الناس تضخماً أعلى، يطالبون بأجور أعلى وتحدد الشركات أسعارها على هذا الأساس، وهي ظاهرة تعرف باسم التأثيرات من الدرجة الثانية (Second-round Effects)، التي تصعّب السيطرة على التضخم بشكل كبير.

العواقب الاقتصادية والمالية لارتفاع التضخم

إن استمرار ارتفاع التضخم في بريطانيا يحمل تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة تهدد الاستقرار المالي والمجتمعي:

  1. تآكل مستويات المعيشة وركود الدخل الحقيقي: شهدت الأسر البريطانية -باستثناء المتقاعدين- نمواً ضئيلاً جداً في مستويات معيشتها الحقيقية منذ عام 2010، بعد أخذ التضخم في الحسبان. نمو الأجور يتباطأ ويسير بالكاد فوق التضخم، مما يحد من أي انتعاش في القوة الشرائية الفعلية ويجبر الأسر على خفض الإنفاق غير الضروري، مما يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي العام.
  2. زيادة عبء الدين الحكومي: تتحمل بريطانيا نسبة أكبر من سنداتها الحكومية المرتبطة بالتضخم (Inflation-Indexed Bonds) مقارنة بالدول الأخرى. عندما يرتفع التضخم، تزداد المدفوعات التي يجب على الحكومة سدادها لحاملي هذه السندات تلقائياً، ما يضيف المزيد من الضغط على الميزانية العامة في وقت تتزايد فيه مطالب الإنفاق الأخرى على الخدمات العامة.
  3. إبطاء النمو طويل الأجل: يمكن أن يؤدي التضخم المرتفع إلى إبطاء النمو الاقتصادي على المدى الطويل إذا دفع الأسر إلى زيادة المدخرات الوقائية لمواجهة صدمات الأسعار المستقبلية، ويثبط الشركات عن وضع خطط استثمارية طويلة الأجل بسبب عدم اليقين في التكاليف والإيرادات المستقبلية.

توقعات بنك إنجلترا ومسار العودة للهدف

يتوقع بنك إنجلترا أن يبلغ التضخم في بريطانيا ذروته في شهر سبتمبر، لكنه لن يعود إلى مستهدفه البالغ 2% إلا في الفترة من أبريل إلى يونيو من عام 2027. ويشير المحافظ أندرو بيلي وزملاؤه إلى أن التوقعات لا تزال غير واضحة، خاصة بالنظر إلى استمرار الغموض حول مسار أسعار السلع العالمية والمخاطر الجيوسياسية. هذا الغموض يجعل من الصعب التنبؤ بموعد خفض أسعار الفائدة مجدداً، ما يترك المستهلكين والشركات في حالة من عدم اليقين بشأن مسار السياسة النقدية المستقبلية وتكلفة الاقتراض.

اقرأ أيضا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى