أسعار النفط بين ضغط العرض وتهديدات الجغرافيا السياسية

تشهد أسعار النفط حالة من التذبذب الحذر، حيث تتأرجح الأسواق تحت وطأة قوى متضاربة، ما بين وفرة المعروض العالمي والمخاوف الجيوسياسية المتصاعدة. هذا الوضع المعقد يجعل من الصعب التنبؤ بمسار الأسعار على المدى القصير، ويجبر المحللين على دراسة كل عامل بعناية فائقة.
المعروض يضغط على الأسعار: عوامل هيكلية ومؤقتة
تعد زيادة المعروض من أبرز القوى الهيكلية التي تضغط على أسعار النفط. فقد أشار تقرير حديث صادر عن وكالة الطاقة الدولية (IEA) إلى أن الإمدادات العالمية من النفط ستنمو بشكل أسرع من المتوقع خلال العام الجاري. ويعود هذا النمو إلى عاملين رئيسيين: الأول هو زيادة الإنتاج من قبل أعضاء تحالف “أوبك+”، الذين قرروا مؤخراً رفع حصص الإنتاج. والثاني هو استمرار نمو الإنتاج من خارج المجموعة، خاصة من الولايات المتحدة التي تواصل تعزيز إنتاجها من النفط الصخري.
بالإضافة إلى العوامل الهيكلية، هناك عوامل مؤقتة تساهم في الضغط على الأسعار. وتعد البيانات الأسبوعية الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) مؤشراً قوياً على هذه الديناميكية. فقد كشفت البيانات الأخيرة عن ارتفاع مخزونات الخام الأمريكية بنحو 3.9 مليون برميل، وهو ما فاق توقعات المحللين الذين كانوا يتوقعون سحباً من المخزونات. هذا الارتفاع المفاجئ يعكس ضعفاً في الطلب المحلي الأمريكي، ويشير إلى أن المعروض يتجاوز الاستهلاك في الوقت الراهن.
التوترات الجيوسياسية: شبح المخاطر يضع حداً للهبوط
على الجانب الآخر، تساهم التوترات الجيوسياسية في وضع حد أدنى لأسعار النفط وتمنعها من الانهيار. وتأتي هذه التوترات على عدة جبهات، أبرزها:
- الصراع في الشرق الأوسط: الهجمات الأخيرة في المنطقة، وتهديدات التصعيد، تثير قلق المستثمرين بشأن استقرار إمدادات النفط من واحدة من أهم مناطق الإنتاج في العالم. أي انقطاع محتمل في الإمدادات قد يؤدي إلى قفزة فورية في الأسعار، مما يجعل المستثمرين في حالة ترقب دائم.
- الحرب الروسية-الأوكرانية: المخاطر المرتبطة بالنزاع في أوكرانيا، وخاصة الهجمات على البنية التحتية للطاقة وتصعيد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، تساهم في دعم الأسعار. كما أن فرض عقوبات محتملة على المشترين الرئيسيين للنفط الروسي، مثل الصين والهند، يضيف حالة من عدم اليقين في السوق، مما يساهم في دعم الأسعار في ظل المخاوف من نقص محتمل في الإمدادات.
تأثير الاقتصاد الكلي: توقعات متشائمة تضعف الطلب
يلعب الاقتصاد الكلي العالمي، وخاصة الاقتصاد الأمريكي، دوراً حاسماً في تحديد مسار أسعار النفط. ويعتبر ضعف الاقتصاد الأمريكي عاملاً رئيسياً آخر يضعف الطلب على الطاقة. فالبيانات الاقتصادية الأخيرة، والتي تشير إلى تباطؤ في النمو، قد رفعت التوقعات بأن يقوم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة في وقت قريب. وعلى الرغم من أن خفض الفائدة قد يحفز النشاط الاقتصادي مستقبلاً، إلا أن الحالة الراهنة للاقتصاد تثير مخاوف بشأن قوة الطلب على النفط.
وأوضح توني سيكامور، المحلل في أسواق المال لدى “آي جي”، أن “المتداولين يتخذون موقفاً أكثر حذراً قبيل صدور تقرير التضخم الأمريكي، خاصة وأن توقعات بخفض كبير في أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي قد تم احتسابها بالفعل في الأسواق، مما قد يتزعزع في حال جاء تقرير مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) أعلى من التوقعات”. هذا التحليل يؤكد أن توقعات الاقتصاد الكلي تؤثر بشكل مباشر على شهية المستثمرين للمخاطر، وبالتالي على قراراتهم المتعلقة بشراء أو بيع النفط.
توقعات المراقبين: تناقضات السوق
يشير المحللون، مثل تاماس فارجا من “بي في إم أويل أسوشييتس”، إلى أن السوق “ممزقة بين إحساس بنقص محتمل في الإمدادات بسبب التوترات في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وواقع وجود فائض فعلي في المعروض، والذي ينعكس في ارتفاع إنتاج أوبك+ وتزايد المخزونات”. هذا التناقض هو ما يفسر حالة الاستقرار النسبي في الأسعار حالياً. ومع ذلك، يضيف فارغا أن أسعار النفط من المرجح أن تستأنف مسارها الهابط بمجرد أن تتراجع حدة التوترات الجيوسياسية.
في النهاية، يبقى سوق النفط ساحة مفتوحة لتأثيرات العرض والطلب والمخاطر السياسية. وإلى أن يتم حل هذه التناقضات، ستظل أسعار النفط رهينة لتطورات الأحداث العالمية، مما يجعلها تحت المجهر في كل يوم.
إقرأ أيضا….