أخبار الأسواقأخبار الإسترليني دولارفوركس

الجنيه الاسترليني يواجه عواصف مالية

تكاليف الاقتراض البريطانية عند أعلى مستوى في 26 عاماً

شهدت الأسواق المالية البريطانية موجة قلق متزايدة، حيث ارتفعت تكاليف الاقتراض الحكومي لأجل 30 عاماً إلى أعلى مستوياتها منذ عام 1998، بينما تراجع سعر الجنيه الاسترليني بنسبة تزيد عن 1.5% خلال يوم واحد. يعكس هذا التطور المزدوج مخاوف المستثمرين المتنامية بشأن قدرة المملكة المتحدة على ضبط أوضاعها المالية العامة في ظل بيئة اقتصادية صعبة. هذا الارتفاع القياسي في تكاليف الاقتراض، الذي لم تشهده بريطانيا منذ أكثر من ربع قرن، يبعث برسالة واضحة إلى الحكومة بأن الأسواق تطلب الآن ضمانات أكبر مقابل إقراضها.

تزامن هذا البيع المكثف للسندات الحكومية البريطانية، المعروفة باسم “جلتس”، مع عمليات بيع مماثلة في أسواق السندات العالمية، حيث تتجه الأنظار نحو مستويات الديون المتزايدة. لكن ضعف الجنيه الاسترليني، الذي سجل أكبر تراجع يومي له منذ عام 2023، يشير إلى أن الأسواق البريطانية تعاني من نقاط ضعف فريدة من نوعها، خاصة مع تزايد الشكوك حول قدرة الحكومة العمالية الجديدة على فرض انضباط مالي. هذه الهشاشة تجعل الجنيه الاسترليني عرضة بشكل خاص للتقلبات، مما يزيد من صعوبة التخطيط الاقتصادي على المدى القصير والمتوسط.

مخاطر إضافية على العملة البريطانية

يؤكد محللو العملات أن المستثمرين بدأوا في فرض “علاوة مخاطر” على أسواق أسعار الفائدة البريطانية، وهو ما امتد الآن ليشمل الجنيه الاسترليني. “علاوة المخاطر” هذه هي تعويض إضافي يطلبه المستثمرون لحيازة أصول تعتبر أكثر خطورة. في الحالة البريطانية، تعود هذه المخاطر إلى حالة عدم اليقين بشأن المسار المالي للبلاد، ووجود عجز كبير في الميزانية، وتحديات نمو هيكلية.

هذا التحول في المعنويات يترجم عملياً إلى تكاليف اقتراض أعلى على الخزانة البريطانية، مما يزيد من صعوبة تمويل الخدمات العامة والاستثمارات الحكومية. كما أن هذا القلق يظهر بوضوح في أسواق العملات؛ ففي حين أن عوائد السندات ترتفع عالمياً، إلا أن الأداء الضعيف بشكل ملحوظ لـ الجنيه الاسترليني يجعله أضعف عملة بين مجموعة العشرة الكبار (G10) مقابل الدولار، مما يؤكد أن المستثمرين ينظرون إلى الوضع البريطاني بعين الريبة مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى.

وقد أدى هذا التحول في المعنويات إلى ارتفاع عوائد السندات البريطانية لأجل 30 عاماً إلى 5.697%، وهو أعلى مستوى لها منذ مايو 1998. وفي الوقت نفسه، انخفض سعر الجنيه الاسترليني إلى 1.34 دولار، كما تراجع بنسبة 0.5% مقابل اليورو. هذا التراجع لا يعكس مجرد أرقام، بل يترجم إلى ارتفاع محتمل في تكلفة الواردات، مما قد يغذي التضخم ويؤثر بشكل مباشر على القوة الشرائية للمواطنين.

تحديات تنتظر الحكومة البريطانية الجديدة

تأتي الضغوط على الأصول البريطانية بعد يوم واحد من قيام رئيس الوزراء كير ستارمر بإعادة تشكيل فريقه الاستشاري، حيث عيّن دارين جونز، نائب وزيرة المالية راشيل ريفز، في منصب جديد يهدف إلى تحسين التنسيق الحكومي. كما قام ستارمر بتعيين نائبة سابقة لمحافظ بنك إنجلترا، مينوش شفيق، كمستشارة اقتصادية رئيسية، في خطوة تهدف لتعزيز الخبرة الاقتصادية قبل الميزانية الصعبة المتوقعة في وقت لاحق من العام. هذه الخطوات السياسية، على الرغم من أنها تهدف إلى بث الثقة، إلا أنها أثارت تساؤلات في السوق حول ما إذا كانت تعكس خلافات داخلية، مما أضاف طبقة أخرى من عدم اليقين.

ويؤكد المحللون أن هذه التغييرات، التي جاءت بعد عطلة البرلمان الصيفية، أعادت تسليط الضوء على التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها البلاد، بما في ذلك مستويات الاقتراض المرتفعة، والنمو الاقتصادي البطيء، وأعلى معدل تضخم بين دول مجموعة السبع. فمنذ جائحة كوفيد-19 وأزمة الطاقة، ارتفع الدين الحكومي بشكل حاد، وتزايدت الضغوط على الإنفاق العام. وفي الوقت نفسه، يعاني الاقتصاد من تباطؤ في النمو، مما يجعل من الصعب توليد الإيرادات اللازمة لخفض الدين. علاوة على ذلك، يعد ارتفاع التضخم في المملكة المتحدة، والذي يتجاوز نظيره في العديد من الدول المتقدمة الأخرى، تحدياً كبيراً لبنك إنجلترا الذي يجد نفسه في موقف صعب بين مكافحة التضخم ودعم النمو.

نهاية الطريق؟

يشير نيل ميهتا، مدير الصندوق في شركة “بلو باي لإدارة الأصول”، إلى أن كل “حادثة” ارتفاع في عوائد السندات تقرب الحكومة من “نهاية الطريق”، حيث تبدأ الخيارات المتاحة لها في النفاد. وقد تشمل هذه النهاية تراجع الحكومة عن التزاماتها الانتخابية أو حتى تغييرات سياسية أوسع نطاقاً. هذا التحذير يعكس قلقاً عميقاً من أن المشاكل الاقتصادية البريطانية ليست مجرد تقلبات عابرة، بل هي قضايا هيكلية عميقة الجذور تتعلق بأسواق الطاقة والإسكان والعمل. فمع وجود سوق عمل مشدد، وأزمة سكن مزمنة، وتكاليف طاقة مرتفعة، تبدو حلول المشكلات الاقتصادية في البلاد أكثر تعقيداً وتتطلب إصلاحات جذرية قد تستغرق وقتاً طويلاً وجهداً سياسياً كبيراً.

في علامة تبعث على الطمأنينة، نجحت بريطانيا في بيع سندات جديدة لأجل 10 سنوات بقيمة 14 مليار جنيه استرليني، بعد جذب أوامر شراء بقيمة تتجاوز 140 مليار جنيه استرليني. هذا الطلب القوي يشير إلى أن الثقة في الأصول البريطانية لم تتلاش تماماً، وأن هناك مستثمرين على استعداد للمراهنة على مستقبل الاقتصاد البريطاني. ومع ذلك، فإن المملكة المتحدة ليست وحدها التي تعاني من هذه المخاوف المالية؛ ففرنسا واليابان أيضاً شهدتا ارتفاعات حادة في عوائد سنداتها الحكومية. ومع ذلك، يميل الأداء البريطاني إلى أن يكون الأسوأ بين هذه الأسواق، مما يؤكد أن العوامل المحلية تلعب دوراً حاسماً في إضعاف الأصول البريطانية، وفي مقدمتها الجنيه الاسترليني.

وفي الختام، يواجه الجنيه الاسترليني ومعه الاقتصاد البريطاني مرحلة دقيقة تتطلب قرارات مالية حاسمة. وبينما قد يكون هناك بعض نقاط القوة الكامنة في الاقتصاد، فإن الثقة في السياسات المالية تظل المحرك الرئيسي لمعنويات المستثمرين في الفترة القادمة. ستكون الميزانية القادمة اختباراً حقيقياً لقدرة الحكومة على تقديم خطة مالية ذات مصداقية، يمكنها استعادة ثقة الأسواق ودعم استقرار العملة الوطنية.

اقرأ أيضا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى