هل تنهي أسعار النفط خسائرها مع تعثر جهود السلام في أوكرانيا؟

شهدت أسعار النفط استقراراً نسبياً في تداولات اليوم، لتضع حداً لسلسلة من الانخفاضات دامت لثلاثة أسابيع، وذلك بعد أن تراجعت الآمال في التوصل إلى اتفاق سلام وشيك بين روسيا وأوكرانيا. يأتي هذا الاستقرار في ظل مزيج معقد من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية التي تؤثر على السوق العالمية، حيث يتصارع تأثير التوترات السياسية مع مؤشرات الطلب المتذبذبة في الاقتصادات الكبرى. هذا التوازن الدقيق بين عوامل الخطر والمحفزات الاقتصادية هو ما يحدد مسار أسعار النفط في المدى القريب.
التوترات الجيوسياسية تدعم أسعار النفط وتزيد من حالة عدم اليقين
تراجعت آمال إحلال السلام بعد تعثر جهود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في ترتيب قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ومع استمرار الصراع، ازدادت المخاوف بشأن إمدادات الطاقة، خاصة بعد استهداف منشآت نفطية حيوية.
فقد أعلنت أوكرانيا أنها استهدفت مصفاة نفط روسية ومحطة ضخ نفط “أونيخا”، وهي جزء أساسي من خط أنابيب “دروجبا” الذي ينقل النفط إلى أوروبا. وأكدت المجر أن الإمدادات عبر الخط قد توقفت، مما أثار قلق الأسواق بشأن اضطراب تدفقات الطاقة التي تعتمد عليها القارة الأوروبية بشكل كبير. يُعد خط أنابيب “دروجبا” شرياناً حيوياً لتوصيل النفط الخام الروسي إلى دول أوروبا الشرقية والوسطى، وأي تعطل فيه يثير على الفور مخاوف أمن الطاقة الإقليمية.
هذه التوترات المتصاعدة تزيد من احتمالية فرض عقوبات أمريكية أكثر صرامة على روسيا، مما قد يحد من صادراتها النفطية ويؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل أكبر. كما أن هذه الأنباء جاءت في وقت قدم فيه المخططون العسكريون الأمريكيون والأوروبيون خيارات عسكرية لمستشاريهم للأمن القومي، بعد أول اجتماع شخصي بين القادة الروس والأمريكيين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وتعكس هذه التحركات الدبلوماسية والعسكرية الجارية حجم التعقيد والصعوبات التي تواجهها جهود التوصل إلى حل سلمي.
ووفقًا لمصادر قريبة من المفاوضات، اشترط بوتين أن تتخلى أوكرانيا عن منطقة دونباس الشرقية بأكملها، وأن تتخلى عن طموحاتها في الانضمام إلى حلف الناتو، وأن تمنع وجود القوات الغربية على أراضيها. في المقابل، تعهد ترامب بحماية أوكرانيا في أي اتفاق سلام، بينما رفض الرئيس زيلينسكي بشكل قاطع فكرة الانسحاب من الأراضي الأوكرانية المعترف بها دولياً. هذا التباين في المواقف يبقي حالة عدم اليقين في صدارة اهتمامات سوق الطاقة، مما يدفع المستثمرين إلى تسعير “علاوة المخاطر” في أسعار النفط العالمية.
العوامل الاقتصادية توازن كفة السوق بمؤشرات متناقضة
في الوقت الذي تدعم فيه التوترات الجيوسياسية الأسعار، تأتي البيانات الاقتصادية لتقدم صورة أكثر تعقيدًا. فقد تلقت أسعار النفط دعماً قوياً من بيانات أظهرت انخفاضاً أكبر من المتوقع في مخزونات النفط الخام الأمريكية. وذكرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن المخزونات تراجعت بمقدار 6 ملايين برميل في الأسبوع المنتهي في 15 أغسطس، وهو ما يفوق توقعات المحللين التي كانت تشير إلى انخفاض بمقدار 1.8 مليون برميل فقط.
هذا الانخفاض الكبير يعد مؤشراً قوياً على استمرار الطلب القوي في أكبر اقتصاد مستهلك للنفط في العالم، وهو ما عادة ما يدفع الأسعار للارتفاع. هذا التراجع الحاد في المخزونات يشير إلى أن النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يزال يتمتع بمرونة وقوة، مما يؤكد أن الطلب على الوقود لتلبية احتياجات النقل والصناعة لم يتأثر بشكل كبير.
لكن في المقابل، شهدت الأسواق مخاوف متزايدة بشأن الطلب العالمي بعد صدور بيانات اقتصادية ضعيفة من ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، والتي أظهرت انكماشاً بنسبة 0.3% في الربع الثاني. هذا الانكماش يثير القلق من تباطؤ النمو الاقتصادي في المنطقة، مما قد يؤثر سلبًا على استهلاك النفط وبالتالي على أسعار النفط العالمية.
ويعكس التراجع في الاقتصاد الألماني المخاطر التي تواجهها القارة الأوروبية ككل، حيث يمكن أن تؤدي الدوامة الانكماشية في إحدى قواها الاقتصادية إلى تداعيات سلبية على بقية دول الاتحاد، مما يضع ضغوطاً هبوطية على الطلب على الطاقة. فالصناعات الثقيلة وقطاع النقل في ألمانيا هما من أكبر مستهلكي الطاقة، وأي تباطؤ فيهما يُترجم مباشرة إلى انخفاض في الطلب على النفط.
مؤتمر جاكسون هول: كلمة مفتاحية لمستقبل أسعار الفائدة والأسواق
تترقب الأسواق أيضاً نتائج مؤتمر جاكسون هول الاقتصادي السنوي الذي يُعقد في وايومنغ بالولايات المتحدة. يركز المستثمرون بشكل خاص على كلمة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بحثًا عن أي إشارات حول مستقبل أسعار الفائدة. يعتبر هذا المؤتمر منصة هامة يحدد فيها صناع السياسات المالية توجهاتهم المستقبلية، مما يجعله حدثاً محورياً لحركة الأسواق.
إذا ما قرر الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة، فقد يحفز ذلك النمو الاقتصادي ويزيد من الطلب على النفط، مما قد يمنح أسعار النفط دفعة قوية نحو الارتفاع. ذلك لأن أسعار الفائدة المنخفضة تقلل من تكلفة الاقتراض للشركات والأفراد، وتشجع على الاستثمار والإنفاق، مما ينعكس إيجاباً على النشاط الاقتصادي واستهلاك الطاقة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن خفض أسعار الفائدة يؤدي عادة إلى إضعاف قيمة الدولار الأمريكي، مما يجعل النفط المسعر بالدولار أرخص بالنسبة للمشترين من الدول الأخرى، وهو ما يزيد الطلب عليه بشكل طبيعي. على العكس، أي تلميح إلى إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة قد يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد وانخفاض محتمل في الطلب، خاصة مع ارتفاع تكلفة الاقتراض وتأثر الأنشطة الاقتصادية الحساسة لأسعار الفائدة.
بشكل عام، تظل أسعار النفط عرضة للتقلبات المتأثرة بالصراع الجيوسياسي في أوكرانيا، بالإضافة إلى ديناميكيات العرض والطلب العالمية والقرارات الاقتصادية الكبرى. وبينما لا تزال الآمال في التوصل إلى تسوية دبلوماسية ضعيفة، يبقى سوق النفط في حالة ترقب، يتأرجح بين مخاوف نقص الإمدادات من جهة، ومخاوف تباطؤ النمو الاقتصادي من جهة أخرى، مما يبقي حالة عدم اليقين هي السمة الأبرز للمرحلة الراهنة.
اقرأ أيضا…