أخبار الأسواقاخبار اقتصاديةأخبار الدولار الأمريكي

الفيدرالي الأميركي يثبت أسعار الفائدة وسط تصاعد مخاطر التضخم والبطالة

في خطوة كانت متوقعة على نطاق واسع ولكنها محاطة بكثير من الترقب، قرر مسؤولو الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي للولايات المتحدة) الإبقاء على أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير للمرة الثالثة على التوالي. هذا القرار، الصادر في ختام اجتماع لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، يأتي في وقت حرج يشهد فيه الاقتصاد الأمريكي والعالمي حالة متزايدة من عدم اليقين، مع تشديد البنك المركزي على المخاطر المتصاعدة لكل من التضخم المستعر والركود الاقتصادي المحتمل الذي قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة.

يعتبر الفيدرالي الأميركي المؤسسة النقدية الأهم في العالم، وقراراته لا تؤثر فقط على الاقتصاد الأكبر عالميًا، بل تمتد تداعياتها لتشمل الأسواق المالية العالمية، أسعار الصرف، وتدفقات رأس المال. يستخدم الفيدرالي أدوات متنوعة لإدارة السياسة النقدية، أبرزها سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية، بالإضافة إلى عمليات السوق المفتوحة ومتطلبات الاحتياطي للبنوك، وفي السنوات الأخيرة، برامج التيسير الكمي وتقليص الميزانية العمومية.

تفاصيل قرار لجنة السوق المفتوحة: إجماع في ظل الضبابية

جاء التصويت داخل لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية (FOMC)، وهي الذراع المعنية بصنع السياسة النقدية في الفيدرالي الأميركي، بالإجماع لصالح تثبيت النطاق المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بين 4.25% و4.5%. هذا المستوى، الذي تم الوصول إليه في ديسمبر/كانون الأول السابق، يعكس فترة من التوقف المؤقت بعد سلسلة من الارتفاعات التي هدفت لكبح جماح التضخم.

البيان الصادر عن اللجنة لم يخلُ من نبرة حذرة، حيث أشار بوضوح إلى أن “عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية قد ازداد بشكل أكبر”. ولعل الأهم من ذلك هو إقرار اللجنة بأن “المخاطر على جانبي تفويضها المزدوج – استقرار الأسعار وتحقيق أقصى قدر من التوظيف – قد ارتفعت”. هذا الإقرار يُعد اعترافًا ضمنيًا بصعوبة المهمة الملقاة على عاتق الفيدرالي الأميركي في ظل المعطيات الراهنة. فالتفويض المزدوج يتطلب من البنك تحقيق توازن دقيق: كبح التضخم دون التسبب في ركود حاد يؤدي إلى فقدان الوظائف على نطاق واسع. الإجماع في التصويت، رغم هذه التحديات، يشير إلى وجود رؤية موحدة داخل اللجنة حول ضرورة التريث وتقييم المزيد من البيانات قبل اتخاذ أي خطوات جديدة.

ردود فعل الأسواق الأولية كانت إيجابية بحذر؛ إذ سجل مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” للأسهم الأمريكية ارتفاعًا، مما قد يعكس ارتياح المستثمرين لعدم وجود مفاجآت أو تشديد إضافي للسياسة النقدية في الوقت الحالي. وفي المقابل، شهدت عوائد سندات الخزانة الأمريكية انخفاضًا، وهو ما قد يشير إلى تزايد الإقبال على الملاذات الآمنة أو توقعات بتباطؤ النمو، بينما قلص الدولار الأمريكي من مكاسبه.

تأثير السياسات التجارية والضغوط الرئاسية: تحديات إضافية للفيدرالي

تُلقي السياسات التجارية التي تبنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، وخاصة فرض رسوم جمركية واسعة النطاق، بظلال كثيفة من عدم اليقين على المشهد الاقتصادي. هذه السياسات، التي لا تزال تفاصيل بعضها قيد التفاوض والمراجعة، يُنظر إليها من قبل غالبية الاقتصاديين على أنها سلاح ذو حدين؛ فمن ناحية، يمكن أن تسهم في زيادة الضغوط التضخمية عبر رفع تكاليف السلع المستوردة، ومن ناحية أخرى، قد تكبح النمو الاقتصادي عبر تعطيل سلاسل الإمداد وتقليل حجم التجارة الدولية وإضعاف ثقة الشركات.

هذا الوضع المعقد يضع الفيدرالي الأميركي في موقف لا يُحسد عليه، حيث يجد نفسه في مواجهة أهداف قد تبدو متعارضة. فمكافحة التضخم الناجم عن التعريفات قد تتطلب تشديدًا للسياسة النقدية، وهو ما قد يزيد من تباطؤ النمو. وفي المقابل، محاولة دعم النمو قد تتطلب تيسيرًا نقديًا، وهو ما قد يفاقم الضغوط التضخمية.

لم تخلُ الفترة الأخيرة من ضغوط مباشرة وغير مباشرة من البيت الأبيض، حيث دعا الرئيس ترامب في مناسبات عدة الفيدرالي الأميركي ورئيسه جيروم باول إلى خفض أسعار الفائدة لتحفيز الاقتصاد. هذه الدعوات تثير تساؤلات حول استقلالية البنك المركزي، وهي حجر الزاوية في مصداقية السياسة النقدية. تاريخيًا، أثبتت التجارب أن البنوك المركزية التي تخضع للضغوط السياسية قد تجد صعوبة أكبر في الحفاظ على استقرار الأسعار على المدى الطويل.

ومع ذلك، بدا باول وزملاؤه في الفيدرالي الأميركي عازمين على عدم السماح للتعريفات الجمركية بإحداث موجة تضخم مستدامة. وألمح العديد من المسؤولين إلى أنهم لن يكونوا مستعدين لخفض أسعار الفائدة كإجراء وقائي لحماية الاقتصاد من التباطؤ إذا كان ذلك يعني التهاون في مكافحة التضخم. يعكس هذا الموقف إدراكًا بأن استقرار الأسعار هو شرط أساسي لسوق عمل قوي ومستدام على المدى الطويل.

الصورة الاقتصادية الراهنة: بين مرونة سوق العمل ومخاوف الركود

على الرغم من تزايد المخاوف بشأن احتمال حدوث ركود اقتصادي، وهو ما دفع بعض الشركات إلى تأجيل قراراتها الاستثمارية، لا يزال سوق العمل الأمريكي يُظهر درجة ملحوظة من المرونة. فقد أضاف الاقتصاد 177 ألف وظيفة في شهر أبريل/نيسان، وهو رقم يعكس استمرار الطلب على العمالة. وقد وصف بيان الفيدرالي الأميركي ظروف سوق العمل بأنها “صلبة”. هذه الصلابة في سوق العمل توفر بعض الدعم للاقتصاد وتمنح البنك المركزي مساحة للمناورة.

مع ذلك، يرى الاقتصاديون أن التأثير الكامل للرسوم الجمركية الجديدة لم يظهر بعد في البيانات الاقتصادية، وأن الأمر قد يستغرق عدة أشهر حتى تتضح الصورة بشكل كامل. وقد شهد الاقتصاد الأمريكي انكماشًا في بداية العام للمرة الأولى منذ عام 2022، لكن المقاييس الأساسية للطلب، مثل إنفاق المستهلكين واستثمارات الشركات (باستثناء القطاعات الأكثر تأثرًا بالسياسات التجارية)، ظلت قوية نسبيا.

وأشار بيان لجنة السوق المفتوحة إلى أنه “على الرغم من أن التقلبات في صافي الصادرات قد أثرت على البيانات، فإن المؤشرات الأخيرة تشير إلى أن النشاط الاقتصادي استمر في التوسع بوتيرة قوية”. وقد لوحظ في الربع الأول من العام تسارع الشركات والمستهلكين إلى “تحميل أمامي” للمشتريات، أي زيادة الواردات والإنفاق تحسبًا لفرض تعريفات جديدة أو ارتفاع الأسعار، وهو ما قد يكون قد دعم النشاط الاقتصادي بشكل مؤقت. وفي جانب إيجابي آخر، أظهرت بعض مقاييس التضخم الرئيسية بعض التباطؤ في شهر مارس، مما قد يعطي الفيدرالي الأميركي بعض الوقت لتقييم الأوضاع.

سياسة الميزانية العمومية للفيدرالي: تقليص مستمر 

إلى جانب قرارات أسعار الفائدة، يواصل الفيدرالي الأميركي إدارة حجم ميزانيته العمومية. وقد أكد البنك أنه سيستمر في تقليص ميزانيته بالوتيرة المخفضة التي كان قد أعلن عنها في اجتماع مارس. هذه العملية، المعروفة أيضا بالتشديد الكمي، تهدف إلى سحب جزء من السيولة التي تم ضخها في النظام المالي خلال فترات التيسير الكمي السابقة.

وبموجب هذه السياسة، سيظل الحد الأقصى الشهري لحجم سندات الخزانة التي يسمح لها بالاستحقاق دون إعادة استثمار عند 5 مليارات دولار. أما بالنسبة للأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، فسيظل الحد الأقصى عند 35 مليار دولار شهريًا. هذا التقليص التدريجي للميزانية العمومية يعد أداة أخرى يستخدمها الفيدرالي الأميركي لتطبيع سياسته النقدية، ولكنه يتم بحذر لتجنب إحداث اضطرابات غير مرغوب فيها في الأسواق المالية.

تداعيات أوسع وسياق تاريخي

إن التحديات التي يواجهها الفيدرالي الأميركي ليست فريدة من نوعها في تاريخ السياسة النقدية، ولكنها تأتي في سياق عالمي معقد يتسم بتوترات جيوسياسية، وتحولات في سلاسل القيمة العالمية، وتزايد أهمية العوامل الهيكلية مثل التحول الديموجرافي والتغير التكنولوجي. قرارات البنك المركزي الأمريكي لها تداعيات تتجاوز الحدود، حيث يمكن أن تؤثر على قيمة الدولار، وتكاليف الاقتراض العالمية، وتدفقات الاستثمار إلى الاقتصادات الناشئة.

إذا ما واجه الاقتصاد الأمريكي سيناريو “الركود التضخمي” (stagflation) – وهو مزيج من تباطؤ النمو وارتفاع التضخم – فإن ذلك سيضع ضغوطا كبيرة ليس فقط على الفيدرالي الأميركي ولكن أيضًا على البنوك المركزية الأخرى حول العالم، التي قد تجد نفسها مضطرة للاختيار بين دعم النمو المتدهور أو مكافحة التضخم المتصاعد في اقتصاداتها.

الفيدرالي الأميركي والملاحة في مياه اقتصادية مضطربة

في الختام، يعكس قرار الفيدرالي الأميركي بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير حالة من الحذر والترقب المدروس. يجد البنك المركزي نفسه في وضع دقيق، يسعى من خلاله إلى تحقيق توازن صعب بين كبح جماح التضخم دون دفع الاقتصاد إلى ركود عميق، وفي الوقت نفسه التعامل مع تداعيات السياسات التجارية الحمائية والضغوط السياسية المحتملة.

ستكون الأشهر المقبلة حاسمة، حيث سيقوم مسؤولو الفيدرالي الأميركي بمراقبة البيانات الاقتصادية عن كثب، بما في ذلك مؤشرات التضخم، أرقام التوظيف، بيانات ثقة المستهلكين والشركات، وتطورات التجارة العالمية. أي إشارات على استمرار التضخم بقوة قد تدفع البنك إلى استئناف رفع أسعار الفائدة، بينما أي دليل على تباطؤ اقتصادي حاد قد يفتح الباب أمام تيسير نقدي مستقبلي. وفي كل الأحوال، تظل مهمة الفيدرالي الأميركي محورية في محاولة توجيه أكبر اقتصاد في العالم نحو بر الأمان في خضم بحر من التحديات الاقتصادية العالمية.

اقرأ أيضا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى