مؤشر الدولار الأمريكي: ارتداد من قاع ثلاث سنوات وسط ضغوط سياسية واقتصادية متزايدة

يشهد مؤشر الدولار الأمريكي (DXY)، الذي يعتبر مقياسًا حيويًا لقوة العملة الأمريكية مقابل سلة مرجحة من ست عملات عالمية رئيسية (اليورو، الين الياباني، الجنيه الإسترليني، الدولار الكندي، الكرونا السويدية، والفرنك السويسري)، ارتدادًا ملحوظًا من أدنى مستوى له في ثلاث سنوات.
ويأتي هذا الارتداد قبيل بدء جلسة التداول الأمريكية، في تحرك فاجأ العديد من المشاركين في السوق. كان الدولار الأمريكي قد تعرض لضربة قوية بشكل غير متوقع خلال ساعات التداول الآسيوية، تزامنا مع تداول الأسواق الأوروبية والأمريكية بقدرة محدودة للغاية نظرا لعطلة البنوك بمناسبة عيد الفصح يوم الاثنين، مما قلل من السيولة وزاد من حدة التقلبات.
ترامب يهاجم الفيدرالي ويضغط على الدولار: تداعيات على الاستقلالية والثقة
في تطور لافت، حول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تركيزه بشكل مباشر إلى الاحتياطي الفيدرالي (Fed)، البنك المركزي للولايات المتحدة، الذي يلعب دورا حاسما في تحديد السياسة النقدية وأسعار الفائدة. هاجم ترامب رئيس الفيدرالي، جيروم باول، بحدة غير معتادة، واصفًا إياه بأنه “خاسر كبير” بسبب عدم اتخاذه قرارًا بخفض أسعار الفائدة بوتيرة أسرع، وذلك في ظل رغبة ترامب المعلنة في تحفيز الاقتصاد بشكل أكبر.
ولم يتوقف الأمر عند الهجوم اللفظي، بل تشير التقارير إلى أن ترامب يبحث بنشاط عن سبل قانونية أو سياسية لإقالة باول من منصبه. هذه الضغوط السياسية غير المسبوقة على استقلالية البنك المركزي تعتبر عاملًا رئيسيًا يضع مزيدًا من الضغط الهبوطي على العملة الأمريكية (الدولار)، حيث تقلل من ثقة المستثمرين في استقرار السياسة النقدية وتجعل الدولار أقل جاذبية كأصل آمن.
البيانات الاقتصادية المرتقبة: مؤشرات حاسمة للاتجاه المستقبلي
على صعيد الأجندة الاقتصادية، تترقب الأسواق بحذر شديد صدور بيانات اقتصادية رئيسية يمكن أن توفر مؤشرات واضحة حول صحة الاقتصاد الأمريكي واتجاه السياسة النقدية المستقبلية. تتجه الأنظار بشكل خاص إلى البيانات الأولية لمؤشر مديري المشتريات (PMI) لشهر أبريل، المقرر صدورها يوم الأربعاء.
ويعتبر هذا المؤشر، الذي يقيس النشاط في قطاعي التصنيع والخدمات، مؤشرًا رائدًا للنمو الاقتصادي. كما تحظى طلبيات السلع المعمرة، المقرر الإعلان عنها يوم الخميس، بأهمية كبيرة، حيث تعكس حجم الاستثمار والإنفاق على السلع التي تدوم لفترة طويلة، مما يعطي إشارة حول ثقة الشركات والمستهلكين.
بالنسبة ليوم الثلاثاء، من المقرر أن يتحدث عدد من مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي في مناسبات مختلفة، وستتم مراقبة تصريحاتهم عن كثب بحثًا عن أي إشارات حول توجهاتهم بشأن أسعار الفائدة أو تقييمهم للوضع الاقتصادي الحالي. في المقابل، جاءت بيانات التصنيع الصادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في ريتشموند لشهر أبريل، والتي تعتبر أقل أهمية مقارنة بمؤشر مديري المشتريات الوطني، أسوأ من المتوقع، حيث انخفضت بشكل أكبر في منطقة الانكماش (أقل من 50)، مما يشير إلى استمرار التباطؤ في النشاط الصناعي في تلك المنطقة.
في أسواق الأسهم الأمريكية، سيكون التركيز بعد إغلاق السوق على مكالمة أرباح شركة تسلا (TSLA)، عملاق صناعة السيارات الكهربائية. يمكن أن توفر نتائج الشركة وتوقعاتها المستقبلية مؤشرات حول شهية المخاطرة في قطاع التكنولوجيا والأسواق بشكل عام. كما يضيف الجانب الشخصي المتمثل في إمكانية إعلان الرئيس التنفيذي إيلون ماسك عن موعد مغادرته من قسم كفاءة الحكومة (DOGE) عنصرًا إضافيًا من عدم اليقين والمراقبة.
توقعات الخبراء: هل يتوقف تراجع الدولار؟ تحليل معمق من أبرز المتنبئين
يقول أحد كبار المتنبئين في سوق العملات الأجنبية إن تراجع الدولار، الذي كان حادًا ومستمرًا، من المرجح أن يتوقف أو على الأقل يتباطأ خلال الربع الحالي. يأتي هذا التوقع رغم حقيقة أن الحرب التجارية العالمية، التي أشعلتها سياسات التعريفات الجمركية الأمريكية، قد هزت مكانة الدولار كـ “ملاذ آمن” للمستثمرين في أوقات عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي. هذه الحرب التجارية أدت إلى أسوأ بداية سنوية للدولار منذ عقدين على الأقل، حيث يفضل المستثمرون البحث عن أصول في مناطق أخرى أقل عرضة للتوترات التجارية المباشرة.
لا يزال التناوب المدفوع بالتعريفات الجمركية بعيدًا عن الأصول الأمريكية يمثل خطرًا رئيسيًا على الجانب السلبي للدولار هذا العام، حسبما أكد فالنتين مارينوف، رئيس استراتيجية العملات الأجنبية في كريدي أجريكول. ويحظى مارينوف بمصداقية عالية في السوق، حيث كان الأكثر دقة في توقعات العملات الرئيسية في الربع الأول من العام، وفقًا لتصنيف بلومبرج المرموق. هذا التناوب يعني أن المستثمرين يبيعون الأسهم والسندات وغيرها من الأصول المقومة بالدولار الأمريكي ويحولون أموالهم إلى عملات وأسواق أخرى.
ومع ذلك، كما يرى مارينوف في تحليله الدقيق، فإن خطوة الرئيس دونالد ترامب الأخيرة بوقف فرض بعض الرسوم الجمركية أو تأجيلها يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تهدئة مخاوف السوق بشأن تباطؤ النمو الأمريكي بسبب الحرب التجارية. هذا التهدئة يمكن أن تبطئ وتيرة خروج رأس المال من الأسواق الأمريكية، وبالتالي توفر بعض الدعم للدولار وتعزز من قيمته. علاوة على ذلك، يرى مارينوف أن الاقتصادات الأخرى، وخاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على التصدير، لديها ما تخسره أكثر بكثير من الولايات المتحدة مع استمرار الاحتكاك التجاري وتصاعد التوترات.
وقال مارينوف موضحًا وجهة نظره: “الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على التصدير مثل منطقة اليورو واليابان يجب أن يكون أداؤها أسوأ نسبيًا من الولايات المتحدة خلال حرب تجارية شاملة. ونتوقع أن يقلل هذا التباين في الأداء الاقتصادي النسبي من الجاذبية النسبية لليورو والين” مقارنة بالدولار الأمريكي. وأضاف بثقة: “نعتقد كذلك أن المخاوف المتداولة بشأن تنويع الاحتياطيات من قبل البنوك المركزية والمؤسسات المالية بعيدًا عن الدولار الأمريكي، والحديث عن ‘إلغاء الدولرة’ كظاهرة واسعة النطاق، هي مخاوف مبالغ فيها ولا تعكس الواقع بشكل كامل في الوقت الحالي”.
مؤشر بلومبرج للدولار وأداء العملات الرئيسية: صورة متناقضة
يحوم مؤشر بلومبرج للدولار الفوري، وهو مؤشر آخر يقيس أداء الدولار مقابل سلة أوسع من العملات مقارنة بمؤشر DXY، بالقرب من أدنى مستوى له في ستة أشهر. وقد انخفض المؤشر بنسبة 7٪ منذ بداية عام 2025، مسجلاً بذلك أسوأ بداية لأي عام منذ إطلاق المؤشر في عام 2005. على الرغم من هذا الأداء الضعيف حتى الآن، يلتزم مارينوف بتوقعاته الأساسية بأن الدولار سيعزز قوته ويرتفع من مستوياته الحالية بحلول منتصف العام، مدعومًا بالعوامل التي ذكرها.
في تفصيل لتوقعاته، يرى مارينوف أن الين الياباني سينخفض مقابل الدولار، متوقعًا وصول سعر الصرف إلى 148 ين لكل دولار، مقارنة بحوالي 141 ين حاليًا. كما يتوقع ضعف اليورو مقابل الدولار، حيث يرى أن الزوج سيصل إلى 1.08 دولار لكل يورو، مقارنة بحوالي 1.15 دولار حاليًا، وهو مستوى قريب من أعلى مستوياته منذ عام 2021.
ومع ذلك، أشار مارينوف يوم الثلاثاء إلى عامل خطر مهم يمكن أن يهدد توقعاته الإيجابية للدولار. يتمثل هذا الخطر في استمرار عمليات بيع الدولار في السوق، والتي قد تتفاقم بشكل خاص إذا استمرت تهديدات ترامب بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أو تصاعدت. هذا السيناريو يمكن أن يشكل خطرًا سلبيًا كبيرًا على توقعاته لقيمة العملة الأمريكية. وقد يجبره هذا التطور، إذا حدث، على إعادة تقييم توقعاته الحالية وتعديلها لتناسب الظروف الجديدة.
أداء اليورو والين: مكاسب قوية وسط تحولات عالمية
في المقابل، شهد اليورو والين الياباني أداءً قويًا ومثيرًا للإعجاب هذا العام. ارتفع اليورو بنحو 11٪ منذ بداية العام، وهو في طريقه لتحقيق أفضل أداء سنوي له منذ عام 2017. أما الين، فقد حقق مكاسب بلغت حوالي 12٪، مما يضعه في طريقه لتحقيق أقوى عام له منذ عام 2010. تعكس هذه المكاسب عوامل متعددة، بما في ذلك ضعف الدولار وتغيرات في تدفقات رأس المال العالمية. ارتفعت مستويات التقلب بشكل ملحوظ في سوق الصرف الأجنبي العالمي، الذي يشهد تداولات يومية تقدر بـ 7.5 تريليون دولار، وذلك وسط حالة عدم اليقين والتقلبات الناجمة عن سياسات ترامب الجمركية المتغيرة وغير المتوقعة.
مع تعثر الأسواق الأمريكية وتراجع جاذبيتها النسبية، مما يضر بـ “هالة الاستثنائية الأمريكية” التي كانت تجذب المستثمرين، يقوم المستثمرون في الاتحاد الأوروبي واليابان، الذين كانوا يحتفظون بمراكز شراء كبيرة على الدولار (Long the dollar)، الآن بالتخلص من الأصول الأمريكية التي يعتبرونها عالية المخاطر في ظل الظروف الحالية “وشراء عملاتهم المحلية”، حسبما أوضح مارينوف. يرى مارينوف أن هناك عوامل محددة تدعم اليورو والين بشكل خاص في هذه الفترة. فزيادة الإنفاق الدفاعي في أوروبا، مدفوعًا بالتوترات الجيوسياسية، يمكن أن يحفز النمو ويدعم اليورو. كما أن التوقعات المتزايدة بأن صانعي السياسة في بنك اليابان المركزي قد يضطرون إلى رفع أسعار الفائدة في المستقبل القريب، بعد سنوات من السياسة النقدية شديدة التيسير، توفر دعمًا قويًا للين الياباني وتزيد من جاذبيته للمستثمرين.
وبينما يرى مارينوف أن “الأسواق تحركت بسرعة كبيرة، وفي وقت مبكر جدًا” في عمليات بيع الدولار، مما يشير إلى أن التراجع قد يكون مبالغًا فيه على المدى القصير، فإنه حذر في الوقت نفسه من أن المخاطر على توقعاته لا تزال قائمة ومهمة. من بين هذه المخاطر، احتمال ارتفاع التضخم بشكل أكبر مما هو متوقع في أعقاب فرض تعريفات جمركية جديدة، والتي تزيد من تكلفة السلع المستوردة وتنعكس على الأسعار النهائية للمستهلكين. كما أن عدم اليقين المحيط بمستقبل رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول واستقلالية البنك المركزي يظل عامل خطر كبير يمكن أن يؤثر سلبًا على ثقة السوق في الدولار.
اقرأ أيضا…